خيرا فعل الزميل محمد الأشهب، عندما نقل إلى العربية البيان المشترك، الذي وقعه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ومن معه، تحت عنوان: "مبادئ التضامن. موقف"، إعلانا لموقفهم من الحرب على غزة. من جملة ما جاء في إعلان المبادئ هذا: "نعتقد أنه في خضم كل وجهات النظر المتعارضة التي أعرب عنها، فإن هناك بعض المبادئ التي لا يجب أن تكون محل خلاف. وهي مبادئ تشكل أساسا لتضامن مفكَّر فيه ومتعقَّل مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا... لقد دُفعت إسرائيل إلى الانتقام بهجوم مضاد. لكن كيفية تنفيذ هذا الهجوم المضاد، المبرر من حيث المبدأ، حظيت بمناقشة اتسمت بالكثير من الجدل. فمبادئ من قبيل علاقات التناسب (ضمنيا علاقات عدم التناسب بين حماس وإسرائيل Verhältnismäßigkeit)، وتجنب سقوط ضحايا من المدنيين، وشن حرب مصحوبة باحتمال إحلال السلام في المستقبل، ينبغي أن تكون مبادئ توجيهية. وعلى الرغم من كل القلق على مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير الحكم تزيغ عن الطريق تماما عندما تعزى نوايا الإبادة الجماعية إلى التصرفات الإسرائيلية. وكيفما كان الحال، فإن تصرفات إسرائيل لا تبرر بأي حال من الأحوال ردود الفعل المعادية للسامية، وخاصة في ألمانيا... فالروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، والتي تقوم على أساس الاعتراف باحترام الكرامة الإنسانية، ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود، عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة مع استحضار الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقا في الحقبة النازية. ولهذا فالاعتراف بهذه المسألة والالتزام بها أمر أساسي في حياتنا السياسية المشتركة.إن الحقوق الأساسية في الحرية، والسلامة الجسدية، وكذلك الحماية من التشهير العنصري هي حقوق غير قابلة للتجزئة وتسري على الجميع بالتساوي. وعليه يجب على جميع أولئك الذين يقيمون في بلادنا والذين بثوا فيها المشاعر والقناعات المعادية للسامية باعتماد شتى أنواع الذرائع، ويرون الآن فرصة ملائمة للتعبير عنها دون عائق، أن يلتزموا بتلك الحقوق ويمتثلوا لها".
الروح الديمقراطية لألمانيا ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود، عنصرين أساسيين يستحقان حماية
يورغن هابرماس
لا يمكن لقارئ هذه "المبادئ" أن يتصور أنها صادرة عمن يعتبر فيلسوف "الفضاء العمومي"، وصاحب "نظرية التواصل"، وسليل "المدرسة النقدية"، الذي سبق له أن اتخذ موقفا مشرفا عندما أعلنت الحرب على العراق. ما يثير الاستغراب، هو أن فيلسوفا في حجم هذا الرجل يُدخل كل ما جرى قبل السابع من أكتوبر ضمن "ما قبل التاريخ"، ليعتبر أن تلك هي البداية التي ينبغي أن يعلن بصددها "مبادئه"، أي النقاط التي ينبغي الابتداء منها وبها وانطلاقا منها، ليهتدي بها كي يحدد موقفه ويعلن تخوفه من معاداة السامية.
قبل أن يسن هذه المبادئ، كان هابرماس مشهورا بكثرة حديثه عما كان يدعوه "أخلاقيات الحوار"، وآداب المناقشة. ولكن ها هو يضع أمامنا خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها، أو على الأقل، مساءلتها، والحفر في خلفياتها حتى إن كان ذلك الحفر يغوص في ما اعتبره هو داخلا في "ما قبل التاريخ".
لا يمكن لقارئ هذا البيان ألا يتذكر ما كان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز قد كتبه، في شأن القضية الفلسطينية منذ حوالي أربعين سنة. وعلى الرغم من طول الاقتباس، أستسمح القارئ في نقل جزء منه غير قصير: "ستطالب الصهيونية، وفي ما بعد، دولة إسرائيل، الفلسطينيين بالاعتراف بها قانونيا. ومن جهتها، فإن دولة إسرائيل لم تتوقف عن إنكار وجود شعب فلسطيني. فلا حديث عندها عن فلسطينيين، وإنما عن عرب فلسطين، وكأنهم وجدوا أنفسهم هناك صدفة أو خطأ. لاحقا، سيتم الأمر وكأن الفلسطينيين المهجّرين جاؤوا من خارج. ولن يتم الحديث قط عن حرب المقاومة الأولى التي خاضوها وحدهم. وسيعتبرون من سلالة هتلر، ما داموا لم يعترفوا بحق دولة إسرائيل. إلا أن إسرائيل تحتفظ بحقها في إنكار وجودهم الفعلي. وهنا تبدأ سردية سيزداد انتشارها أكثر فأكثر لتثقل كاهل كل أولئك الذين يدافعون عن القضية الفلسطينية".
تعمل إسرائيل على أن تصور كل أولئك الذين يعارضون ظروفها الفعلية، والأفعال التي تقوم بها الدولة الصهيونية، على أنهم معادون للسامية
جيل دولوز
ويتابع دولوز: "هذه السردية، وهذا الرهان هو أن تعمل إسرائيل على أن تصور كل أولئك الذين يعارضون ظروفها الفعلية، والأفعال التي تقوم بها الدولة الصهيونية، على أنهم معادون للسامية... لم تُخف إسرائيل قط هدفها منذ البداية، وهو إخلاء الأراضي الفلسطينية، وفضلا عن ذلك، التصرف كما لو أن الأراضي الفلسطينية كانت دوما أراضيَ فارغة رُصدت للصهاينة منذ الأزل. لقد كان الأمر يتعلق باستعمار، لكن، ليس بالمعنى الذي أعطاه الأوروبيون للكلمة خلال القرن التاسع عشر: إننا لن نستغل سكان البلاد، سنعمل على تهجيرهم، وأولئك الذين سيبقون، فإننا لن نجعل منهم أيادي عاملة مرتبطة بالأراضي، وإنما، بالأحرى، أيادي عاملة عابرة منفصلة عن أراضيها، وكأنهم مهاجرون وضعوا في غيتوهات. لذا، ومنذ البداية، كانت هبّة شراء الأراضي، شريطة أن تكون خالية، أو قابلة للإخلاء. إنها إبادة جماعية، ولكن، حيث ستظل التصفية الجسدية متوقفة على الإخلاء الجغرافي... قد يُرد علينا: هذه ليست إبادة جماعية، ليكن، إنها وسيلة من بين وسائل أخرى. إن تواطؤ الولايات المتحدة مع إسرائيل، لا يتأتى فقط من قوة اللوبي الصهيوني، فقد أوضح إلياس صنبر كيف أن الولايات المتحدة وجدت في إسرائيل جانبا من تاريخها: إبادة الهنود، التي لم تكن هي كذلك إبادة جسدية إلا في جزء منها. كان الأمر يتعلق بإخلاء المكان، وكأن الهنود لم يكونوا هناك أبدا، اللهم إلا في غيتوهات تجعل منهم مهاجري الداخل. والفلسطينيون، في نواح متعددة، هم الهنود الجدد، هنود إسرائيل".
ما أبعد تساؤلات دولوز عن "مبادئ" هابرماس، لست أقصد الفاصل الزمني الذي يفصل الموقفين، وإنما الهوة الفلسفية التي تميز نصا يثقل كاهلَ صاحبِه تاريخُ بلده فيهاب مساءلة ما يردّد ويقال، وآخر لا يخشى الاختلاف والخلاف.