استبقت الحكومة الكويتية تفاقم المطالبات بقرارها أخيرا زيادة معاشات المتقاعدين التي تقل عن الألف دينار شهرياً إلى مستوى الألف دينار. تشمل الزيادات، أيضا، العاملين في القطاعين العام والخاص وعلى أن تصبح نافذة اعتباراً من بداية سنة 2024، وبررت الحكومة هذه الزيادات بضرورة تحسين المستويات المعيشية وتمكين المواطنين من مواجهة أعباء الحياة وارتفاع التكاليف.
لا شك أن المطالبات بالزيادات ظلت مستمرة منذ مدة ورفع عدد من أعضاء مجلس الأمة اقتراحات ومشاريع وقوانين، بعضها اتسم بالشعبوية المبالغة مثل تخصيص بدلات غلاء معيشة، ورفع قيمة مخصصات الأبناء من خمسين إلى مئة دينار من دون تحديد عدد الأبناء، وتخصيص رواتب أو معاشات للسيدات غير العاملات، بالاضافة إلى تمكين المتقاعدين من الحصول على قروض حسنة من مؤسسة التأمينات الاجتماعية العامة، بحيث يكون القرض معادلاً 21 ضعفاً للراتب الشهري بدلاً من 7 أضعاف وتسهيل خدمة الدين الحسن على مدى زمني أطول.
الشيخ مشعل الأحمد الصباح ، ولي العهد، والذي أدلى بالنطق السامي نيابة عن أمير البلاد الشيخ نواف الأحمد الصباح ، تصدى لهذه المطالبات وبين لأعضاء مجلس الأمة بأنها لا تمثل مطالب شعبية حقيقية ولكنها مجرد تكسب سياسي لمصالح أولئك الأعضاء.
تفاعل حكومي
ويبدو أن مجلس الوزراء، وبناء على توجيهات من القيادة السياسية ، بدأ بالتفاعل مع المطالب المتعلقة بتحسين الأوضاع المعيشية للكويتيين، ولكن هل ستكون المعالجات، التي أكدت الحكومة بأنها يجب أن لا تتعارض مع الاستدامة المالية، وتزيد من الأعباء على الخزينة، مقنعة لأعضاء مجلس الأمة ، والذي يتسم بالشعبوية وعدم الحصافة في إدارة الاقتصاد الوطني؟
يعتقد عدد كبير من الأعضاء بأن ادعاءات الحكومة بأن هناك امكانات لحصول عجز حقيقي غير مؤكدة، حيث أن أسعار النفط في تحسن ويدور سعر برميل النفط الكويت حول 90 دولار، فـــي حين اعتمد تقدير 70 دولاراً للبرميل عندمـــــا قدمـــــــت موازنة 2023 / 2024 إلى مجلس الأمة. لكن هل يمكن أن تتمكن الحكومة من تحقيق التوازن، أو في أحسن الأحوال فائض محدود في نهاية السنة المالية في 31 مارس/ آذار 2024؟
تبلغ قيمة مخصصات الإنفاق في الموازنة 26.3 مليار دينار (85.4 مليار دولار)، في حين قدرت الإيرادات الاجمالية، نفطية وغير نفطية، بـ 19.5 مليار دينار ( 63.4 مليار دولار)، واحتسبت الإيرادات النفطية على أساس 70 دولاراً للبرميل، لذلك فإن العجز المتوقع على أساس تلك الحسبة سيكون 6.8 مليارات دينار (22.1 مليار دولار).
هل مثل هذه الموازنة المتضخمة توفر أموالاً كافية للإنفاق الرأسمالي بعدما استحوذ الإنفاق الجاري، رواتب وأجور وتمويلات ودعومات على النصيب الأكبر منها ؟
هل مثل هذه الموازنة المتضخمة توفر أموالاً كافية للإنفاق الرأسمالي بعدما استحوذ الإنفاق الجاري، رواتب وأجور وتمويلات ودعومات على النصيب الأكبر منها ؟ تمثل الرواتب والدعوم 79.5 في المئة من قيمة الموازنة للسنة المالية الجارية، وتعادل 20.9 مليار دينار (67.6 مليار دولار)، أما الإنفاق الرأسمالي فقد خصص له 2.5 مليار دينار، أو 8 مليارات دولار ، منخفضاً عن مخصصات الإنفاق الرأسمالي في موازنة 2022/2023 بنسبة 15.5 في المئة.
السؤال الأهم هل يمكن إنفاق مخصصات الإنفاق الرأسمالي كاملة في ظل قدرات تنفيذية محدودة ، إن لم تكن متواضعة؟ تؤكد مصادر رسمية أن الإنفاق الرأسمالي في الحساب الختامي للسنوات السابقة ظل دون المخصصات الواردة في مشروع الموازنة، وقد تكون هناك أسباب متنوعة لذلك الإنخفاض منها الدورة المستندية والبيروقراطية التي تتحكم في ترسية المشاريع وعدم كفاءة الشركات التي تنجز تلك المشاريع. هناك العديد من المشاريع المتعطلة ، أو المتأخرة ، مثل مشروع ميناء مبارك في شمال البلاد ومشروع المطار الذي تنفذه شركة تركية، والعديد من مشاريع الطرق، ناهيك عن عمليات الصيانة لمشاريع الكهرباء والمياه وكذلك الطرق التي تضررت من مواسم الأمطار خلال السنوات المنصرمة. يضاف إلى ذلك المشاريع العائدة لوزارة التربية والتعليم ووزارة الصحة.
إن ما يثير القلق بشأن الإدارة المالية في الكويت أورده ديوان المحاسبة في التقرير السنوي حول الحساب الختامي للسنة المالية الماضية 2022/2023، وذكر العديد من الملاحظات وبين المخالفات. على سبيل المثال، وفي ما يتعلق بالإنفاق الرأسمالي أشار الديوان التأخر في تنفيذ الأعمال المتعلقة بـ"مشروع المطار الجديد (T2) بما قد يؤخر تسليمه أكثر من 1104 أيام عن تاريخ الإنجاز التعاقدي".
يضاف إلى ذلك أورد التقرير التأخر في صيانة الطرق والتجهيز لموسم الأمطار ومجارير الصرف الصحي. كما بين التقرير ملاحظات بشأن تأخر مشاريع وزارة الصحة وتدني الصرف على سبعة من مشاريع خطة التنمية السنوية الخاصة بالوزارة والتي تبلغ قيمتها 163.6 مليون دينار (530 مليون دولار)، حيث انخفض الانفاق عليها بنسبة 54.5 في المئة. هذا ناهيك عن ملاحظات وجيهة أشار لها التقرير بشأن مشاريع وزارة التربية والتعليم.
تقرير ديوان المحاسبة يثير القلق وأورد العديد المخالفات، منها التأخر في تنفيذ الأعمال المتعلقة بمشروع المطار الجديد بما قد يؤخر تسليمه أكثر من 1104 أيام
يعني ذلك أن هذا الجيش الكبير من العاملين في الإدارة الحكومية والإنفاق الجاري عليهم، المتضخم سنوياً، لم يسعف الدولة لتنفيذ المشاريع المجدية التي تعزز التنمية وترتقي بنوعية الحياة. لا يغيب عن البال أن الإنفاق الرأسمالي يعزز امكانات البلاد ويوفر بنى تحتية ومؤسسية ملائمة للاستثمار الخاص ويمكن المستثمرين المحليين والأجانب من توظيف أموالهم في ظل أوضاع هيكلية مناسبة تساعد على تحقيق النتائج المأمولة من الاستثمار.
هيمن الدولة على الاقتصاد الكويتي
الإنفاق العام في الكويت يمثل المحفز الأساسي للنشاط الاقتصادي، وإذا كان الإنفاق الجاري، الرواتب والإجور والدعومات والمعونات، تعزز الاستهلاك المحلي والإنفاق الخاص فإن الإنفاق الرأسمالي يمثل أهمية للشركات والمؤسسات التي تتعاقد مع الدولة لتنفيذ المشاريع أو توريد السلع والبضائع وتقديم الخدمات، إذاً فإن تعطل المشاريع وتراجع الإنفاق عليها يضر بمصالح الكثير من الأعمال.
لا شك أن الاقتصاد الكويتي المعتمد على الدور المهيمن للدولة يمثل العقبة الأساسية لتفعيل دور القطاع الخاص والارتقاء بأداء المؤسسات ورفع الكفاءة وتحسين الجودة. يتعين قيام الدولة بإنجاز برامج الإصلاح الاقتصادي وتطبيق أنظمة التخصيص بموجب القانون 37 الصادر عام 2010 بشأن نقل ملكية المؤسسات المملوكة من قبل الدولة إلى القطاع الخاص.
الجيش الكبير من العاملين في الإدارة الحكومية والإنفاق الجاري عليهم، المتضخم سنوياً، لم يسعف الدولة لتنفيذ المشاريع المجدية التي تعزز التنمية وترتقي بنوعية الحياة
هناك مرافق لا بد أن تتحول إلى القطاع الخاص من أجل تحسين الجودة وتخفيف الأعباء على المال العام وتتمثل بمرافق الكهرباء وتقطير المياه والاتصالات والنقل، مثل الخطوط الجوية الكويتية وشركة النقل العام، يضاف لها مؤسسات ذات أهمية أقل مثل البريد ومطبعة الحكومة. التحرر من هذه المؤسسات والمرافق، سيوفر الأموال ويعزز دور القطاع الخاص، وربما يمكن من توريد أموال للخزينة العامة على شكل ضرائب أرباح من الشركات التي ستزيد من نشاطها ومسؤولياتها الاقتصادية.
الإصلاح والإرادة السياسية
هل يمكن أن تتوفر الإرادة السياسية لإنجاز مشروع الإصلاح الاقتصادي في ظل مجلس أمة لا يعير أهمية لمسألة الإصلاح، ويسعى لرصد الأموال من أجل التكسب السياسي؟ المجتمع السياسي في الكويت، بشكل عام، لا يزال أسيراً لمنطلقات وقيم سياسية تؤثر رأسمالية الدولة ومعادياً للتخصيص.
يمكن للمرء أن يزعم بأن أي تحولات إيجابية في السياسات المالية والاقتصادية في الكويت لا يمكن أن تتحقق في ظل الأوضاع السياسية السائدة. وبتقديري المتواضع فإن الاصلاح لن يتحقق على المدى المنظور، كما أن المشاريع الكبرى مثل مشروع الشمال المرتبط بطريق الحرير هو بعيد المنال.
الاصلاح لن يتحقق على المدى المنظور، كما أن المشاريع الكبرى مثل مشروع الشمال المرتبط بطريق الحرير هو بعيد المنال، والجهاز الحكومي معدوم الكفاءة
أما الأهداف المتمثلة بترشيد الإنفاق أو تحسين الإيرادات غير النفطية، فهي أيضا تبقى صعبة التحقيق، كما أكد على ذلك تقرير ديوان المحاسبة عن السنة المالية الماضية، فالجهاز الحكومي معدوم الكفاءة وهو لا يتابع تحصيل حقوق الدولة من رسوم على الكهرباء والمياه والاتصالات، أو يتابع تحصيل الحقوق المقررة قضائياً على الغير لصالح الدولة.
تفاقمت أوضاع الإدارة المتخلفة على الرغم من التطبيقات التكنولوجية الحديثة، وتزايدت حالات الفساد الإداري والمالي. ما يزيد الأمور صعوبة ويعطل الإصلاح هو عدم قيام الإدارة الحكومية بمواجهة هذه الأوضاع ومعالجتها في الأوان المناسب وعدم محاسبة المسؤولين عن الأداء المتواضع أو غير السوي.