في رعاية الإيقاع الخفيّ

في رعاية الإيقاع الخفيّ

لا أزعم المعرفة الموسيقية العميقة، ولست من محترفيها، ولم أدرسها أو أعزفها يوما، سوى في حصص البيانو والأكورديون المدرسيّ، إلا أن تجربتي الموسيقية الخاصة اعتمدتْ على الاستماع المكثف للموسيقى وتحديدا الكلاسيكية، واقتناء تسجيلات لأسماء لامعة في سماء الموسيقى النمساوية والروسية والألمانية، حتى تشكّلت لدي مكتبة موسيقية صغيرة من تلك الكلاسيكيات المعروفة، إلى شراء كتب عن موسيقيين مع سيرهم الذاتية وتاريخهم في فن تأليف الألحان وتوزيعها وإيقاعها والغناء مع المعازف والعلاجات وغيرها، مرورا بالبحث عن أصول الآلات والأنغام، وأين تأتلف وأين تتنافر.

هذا البحث ينسجم مع حضوري المستمر لعروض المسارح الموسيقية في أوبرا دبي، والعواصم الأخرى أثناء السفر، سواء المعزوفات الجماعية أو الفردية، من موسيقى كلاسيكية أو حديثة، ومع الحضور والاستماع قادني البحث الموسيقي إلى حيث أستطيع القول إنه أصبح لدي فهم منطقي للأمور، تزامنا مع تطور الحس الموسيقي في وجداني ككاتبة، ولعل منطق الموسيقى غَيّر حتى حجة التفكير في مسيرتي الروائية برمتها، حتى أخذتْ رحلتي مع الكلاسيكيات طريقها في تغيير طريقة العيش والتصرف، نحو الميل إلى الهدوء في الفرح والحزن، وتقبل الآخرين كما هم، والبُعد عن الشجار والصخب. راقبت هذا الإيقاع مليا في نفسي، ووجدتني أراقب العالم كما هو وكيفما أصبح، وكأن فن الموسيقى يحتل كل الرؤى، بدءا من التفكير، مرورا بالمشاعر، وانتهاء بالسلوك.

منطق الموسيقى غَيّر حتى حجة التفكير في مسيرتي الروائية برمتها، حتى أخذتْ رحلتي مع الكلاسيكيات طريقها في تغيير طريقة العيش والتصرف، نحو الميل إلى الهدوء في الفرح والحزن، وتقبل الآخرين كما هم، والبُعد عن الشجار والصخب

كما وجدتني أتعرف على فئتين من الجمهور، وعن قرب، على الرغم من أن أغلب الحفلات التي أحضرها كلاسيكية، ومن المفترض أن جمهور الكلاسيكيات أذواقهم متقاربة، إلا أن الجمهور كان دائما ينقسم أمامي قسمين، العامة والخاصة، وهو تصنيفٌ فيه من التعالي بالنسبة إلى بعضهم، لكن الحقيقة أن الجمهور دائما نوعان، سواء في الشرق أو في الغرب، فالعامة يتمايلون مع الألحان ويرددون مع الكورال الأغاني والأناشيد بفرح عفويّ، أو لعله فرح مبالغ فيه قليلا، بينما يجلس الخاصة وهم قلة، بسكون تام، فآذنهم الموسيقية مُدربة على خيوط اللحن فقط.

وبتُ أراقب من ألتقيهم في الحياة العامة، وأتساءل: هل لديه أذن موسيقية؟ وغالبا أصحاب الأذن الموسيقية يمتازون بترف الإحساس، ويميلون إلى السكون، وهذا ترفٌ لا تملكه سوى قلة من الذين يتبعون إيقاعهم الخاص، فهل تعرفت على إيقاعك الخاص يا ترى؟ ذلك الإيقاع الذي لا ينقطع عنّا منذ ولادتنا، فكل ما حولنا لحن طبيعي يدخل أجسادنا وأذهاننا، حسب المكان الذي نشأنا فيه، من ضجيج وسكون، وأنفاس ورؤى، بين القرية والمدينة، وأصوات السلام والحرب... ليبقى النغم فينا دون انقطاع، من النبض الكوني، إلى نبض القلب وايقاع الجسد، وكل صدى في داخلنا.

فما أن يكتشف الإنسان إيقاعه الموسيقي الخاص، حتى ينساب مع إيقاعه متدفقا ومحلقا وحتى منسجما مع ذاته ومن حوله، بعيدا عن ضجيج الآلات الكهربائية وإيقاعها النافر، ليبقى السّر، كل السّر، في الإيقاع الخفي.

font change