محتفظا بقدرته السردية الفريدة في رصد الظواهر غير المرئية، وبما يميّز أسلوبه في الكتابة الذي يجمع دائما بين الشعرية والصرامة التاريخية، جاءت رواية "هروب" للفرنسي متياس إينار الحائز على جائزة "غونكور" الفرنسية (2015) لتصنع الحدث مباشرة بعد صدورها عن دار "أكت سود" بمناسبة الدخول الأدبي الفرنسي لشهر أغسطس/ آب المنصرم، ولتستمر في إذكاء نار نقاش أدبييختلف عمّا اعتاد عليه منذ صدور روايته "بوصلة" المتوّجة بـ "غونكور"، والتي تعدّ أهم جائزة تُعنى بالرواية في فرنسا وفي العالم الفرنكفوني، فخلافا على ما عوّدنا عليه من أعمال جيّدة لكنها لا ترقى إلى مستوى روايته "بوصلة"، فإنه هذه المرة كتب عملا استثنائيا خلّصه أخيرا من عقدة الجائزة، ليشكل منعرجا سرديا جديدا في مسيرة كاتب يوصف بالمستشرق، نظرا لمرجعياته ذات العلاقة بالتراث العربي، والتي شملت عددا معتبرا من الأعمال السردية أشهرها: "منطقة"، "شارع اللصوص" و"بوصلة"، تخللها تتويجه بجوائز مهمة على غرار جائزة القارات الخمس للفرنكوفونية (2004) وجائزتي "ديسمبر" و"كونديد" عام 2008 بالإضافة إلى جائزة الكتاب الدولية (2009)، لكن تبقى جائزة "غونكور" المرموقة أهم الجوائز التي حصل عليها حتى اليوم.
استغرق ماتياس إينار في كتابة هذه الرواية أربع سنوات، بدأها أثناء تواجده في الحجر الصحيّ بسبب جائحة كورونا، حين وقع بالصدفة على شخصية عالم الرياضيات الألماني بول هايدبور الذي استوحى منه الشخصية الرئيسية في روايته "هروب"، ليجد نفسه منقادا إلى دراسة التاريخ المعاصر لألمانيا، قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، إذ كانت الفكرة في البداية أن يكتب عملا يتمحور حول شخصية هايدبور المثيرة للجدل والفضول معا، فقد كان عالم رياضيات وشاعرا، وهو صاحب كتاب "تخمينات بوخنفالد"، عمل جمع بين الرياضيات والأدب، ألّفه هذا العالم أثناء تواجده في أشهر معتقلات ألمانيا النازية، والذي خُصص للتعذيب والعمل القسري والإعدام أيضا، إلا أن إينار مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أدرك أنه في النهاية لا يكتب عملا بيوغرافيا عن هذا العالم الشاعر، بل يكتب رواية عن الحرب أو لنقل عن "الهروب من الحرب"، فبول هايدبور وهو يكتب كتابه الشهير أثناء اعتقاله، لم يكن يسعى إلى أي مجد، كما لم يكن يبحث عن أية متعة في الكتابة، فإصراره على كتابة "تخمينات بوخنفالد" في ظروف يستحيل فيها أي إبداع أو تفكير أو تأمل، لم تكن إلا بغاية الهروب من واقعه ومن أجل الفرار من الحرب.