جنازة عبد الناصر
"الفنان الذي لا يعوض" و"الطليعي نموذج الحداثة" و"أيقونة الفن المصري المعاصر" كلها صفات تُطلق على العدوي الذي أسّس مع محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وبسبب قوة التجريب وأصالته فقد تأثر به فنانون يُعتبرون الآن من أعمدة الفن الحديث في مصر مثل الإسكندراني الآخر سيف وانلي الذي قال عنه "إنه مثل فان غوخ وسيد درويش يُبعث ليعيش مدة قصيرة ويترك تراثا ينهل منه الجميع".
ومن الغريب فعلا أن يبدأ المعرض الحالي الذي أشرف على تنسيقه الفنان علي سعيد المسؤول عن إدارة مجمع الفنون بصورة غير أصلية للوحة "جنازة عبد الناصر" التي لم يتم الحصول عليها بسبب وجودها خارج مصر. حين وقفت أمام تلك الصورة أدركت لماذا أضطر منسق المعرض إلى الإستعانة بصورة اللوحة بعد أن يئس من الحصول على اللوحة الأصلية. تلك اللوحة وهي من أعمال العدوي الأخيرة تمثل واحدة من الخلاصات الشكلية التقنية التي انتهى إليها الفنان في تجربته القصيرة التي امتدت عبر عشر سنوات فقط. في تلك اللوحة يشعر المشاهد أن هناك عالما يودع عالما. حرص العدوي على أن يستحضر علاماته ورموزه التي صاغ من خلالها عالمه الجمالي في لوحة يغلب عليها الحزن. ولأنه عاش زمنا تقلب بين الأمل المفتوح على المستقبل وبين اليأس برماد ماضيه فقد تردد صدى ذلك التباين الانقلابي على فنه. كان ابن جيله المتربع على عرش هزائمه.
يده حيث يشاء
علينا اليوم أن نراه بعين مختلفة. ما فعله العدوي في زمانه كان حدثا إستثنائيا. ذلك أنه انتقل بالرسم (التصوير) إلى مرحلة الحداثة الثانية. وهي المرحلة التي انفتح الرسم في مصر على آفاق حداثة لم يكن قد تعرف عليها من قبل إلا بطريقة جزئية وانتقائية مأهولة بكثير من التردد. كان العدوي صريحا في التعبير عن مرجعياته وهو يتنقل بين التجريد والتشخيص أو يمزج بينهما وكذلك بين التعبيرية والرمزية من غير أن يرسم حدودا واضحة بينهما. يقول العدوي "إن عناصري تفوح منها رائحة الماضي السحيق، الأشياء القديمة، العربات الكارو، رسوم الأطفال، السجاد الشرقي القديم، نحت الحضارات الشرقية، عالم الموشحات، صلاة الجمعة، عربات الحنطور، العمارة البدائية، حلقات الذكر والحواة والمشعوذين، أعمال فليني وفيسكونتي وبازوليني، الأقصر، الأضرحة، تجمعات الموالد والأسواق والأعياد والشواطئ الشعبية.."، ويظل يعدّد مصادره إلى ما لا نهاية في نص فريد من نوعه، غالبا ما يتحاشى الرسامون كتابته.
والمثير في مصادر العدوي أنها تتوزع بين ما هو مرئي وما هو ذهني، ما هو واقعي وما هو وهمي، ما هو بصري وما هو مكتوب، وأخيرا ما هو معيش وما هو متخيل. ولا يخفي العدوي المؤثرات الفنية التي تقف وراء تطور صلته بالعالم الخارجي. لقد اكتسب من الآخرين الكثير من العناصر التي شكّلت أسلوبه في النظر. ولم يكن الآخرون محصورين بين قوسي صيغة مهنية محددة أو هوية ذات ملامح متشابهة. لقد التقط كل ما وقعت عليه عيناه في الحياة المباشرة كما في الكتب وأيضا ما سمعه من حكايات وامتزجت مادته بأحلامه وفتح أمامه أبواب الدهشة.