نصرالله يلقي خطاب التنحي

نصرالله يلقي خطاب التنحي

أطلّ الأمين العام لـ"حزب الله" في خطابه الأول، دامعا وحزينا كمن يُكتّم ألما برى جسده، ومنتفخ الأوداج كأنه على وشك البكاء، أو كأنه قد فرغ لتوّه من بكاء جعل عينيه متورمتين، ونظرته غير مستقرّة، وبدا مغلوبا على أمره، وتائها لا يملك قرارا، ومتورّطا يستجدي وقف الحرب ليتخلّص من الإحراج، ومتجهّما كشخص مهموم أو مهزوم، وليس كقائد عسكري دائم الانتصارات. وظهر كأنه مجبر على قراءة خطاب غير مقتنع بما ورد فيه، فلم يذكر القدس أبدا، لا زحفا ولا صلاة ولا طريقا، ولم يكرّر وعد إزالة إسرائيل، ولم يغضب ويهدّد ويحذّر، ولم يرفع صوته ولا سبّابته على عادته.

لكنه لم يبدُ حكيما كما رأى البعض، باعتبار أنه جنّب لبنان حربا مدمرّة، فهذا ليس قراره، وقد يتغيّر في أيّ لحظة، فالتسخين الذي تحدّث عنه، هو ربط نزاع مؤقت، إلى أن يشعر الجانب الإيراني بأنه محشور. ثم لماذا لم تظهر هذه الحكمة حين أرسل جحافله لقتل الشعب السوري، بحجّة محاربة داعش، و"جبهة النصرة"، والتنظيمات المشكوك في نشأتها؟ سوى أنه يحارب الشعوب لا الجيوش، فمواجهة جيش يملك قدرات تدميرية هائلة، بحاجة إلى مستوى من التكافؤ، لا تملكه الميليشيات، خصوصا تلك التي تعمل بالإيجار.

بشكل عام، بدا الأمين العام، مثيرا للشفقة، مثل موظّف عتيق يعشق مهنته، لكن مديره أرغمه على تقديم استقالته.

أما خطابه فكان ضعيفا على المستوى السياسي، ذلك أنه استعاد أدبيات الصراع الإيراني– الأميركي التقليدية، فأحيا ثنائية الشيطان الأكبر والمستضعفين، ونغمة "الموت لأميركا"، ولوّح باستهداف مصالحها في المنطقة، محيّدا إسرائيل، رغم أنها أكبر مصالح الولايات المتحدة، بمعنى آخر، دعا إلى مقارعة طواحين الهواء، ليهرب من المواجهة المباشرة.

يمكن إسقاط أجواء خطاب التنحّي "الناصري"، على جمهور الأمين العام، الذي انتظره أربعة أسابيع، ليخوض معه حرب التحرير، لكنه لم يجنِ سوى الهزيمة المعنوية والنفسية، أمام نفسه وأمام عدوّه وأمام الجمهور الآخر، وحفاظا على ماء وجهه، أبدى تعلّقا مضاعفا بقائده الحكيم وإعجابا بقراراته الاستراتيجية وغيرته الوطنية

وعلى المستوى الاستراتيجي، كشف الخطاب أن المقاومة الإسلامية، ليست حركة تحرّر خرجت ضد الاحتلال، بل أداة قتالية تعود ملكيّتها لإيران، تُحرّكها في الزمان والمكان المناسبين، تبعا لحساباتها ومصالحها الخاصة، والدليل هو الالتزام التامّ بقواعد الاشتباك، وتحويل الحدود إلى حقل رماية، والتلطّي خلف الفصائل الفلسطينية، لقصف نهاريا وحيفا وما بعد بعد حيفا. 
شعبيا، يمكن إسقاط أجواء خطاب التنحّي "الناصري"، على جمهور الأمين العام، الذي انتظره أربعة أسابيع، ليخوض معه حرب التحرير، لكنه لم يجنِ سوى الهزيمة المعنوية والنفسية، أمام نفسه وأمام عدوّه وأمام الجمهور الآخر، وحفاظا على ماء وجهه، أبدى تعلّقا مضاعفا بقائده الحكيم وإعجابا بقراراته الاستراتيجية وغيرته الوطنية.
انتهى الخطاب بعبارة- أو "إفّيه"- كما يقول المصريون: "سأكون شفافا وغامضا في الوقت نفسه"، التي اعتُبرت لبّ الخطاب، ودارت حولها التحليلات والتوقّعات. 
في الإطلالة الثانية، بدا الأمين العام، مستعيدا بعضا من عافيته الحضورية، ومهاراته في التخاطب والتواصل، وقدراته على الإقناع والتأثير، مرتاحا أمام الكاميرا، ثابتا لم يظهر عليه التململ ولا الارتباك، ولكنه كان في الوقت نفسه جامدا، فاقدا روح المرح والغمز والسخرية المبطّنة، التي يستخدمها للتأثير عاطفيا على جمهوره.  
أما الخطاب فكان سطحيا وشعبويا في آن. بداية، قصّ علينا أخبار غزّة التي نتابعها، وقال إن إسرائيل أداة بيد الأميركيين، وحمّلهم مسؤولية الحرب، ففسّر الماء بعد الجهد بالماء، بعدها كرّر الكلام الذي يحفظه عن الإخفاق العربي، وعاد إلى الصفر في مسألة العداء للولايات المتحّدة، ثم قدّم فقرة أشبه بـ"ما يطلبه المستمعون"، عن "الهزائم الأميركية في المنطقة"، فتوعّد بمزيد من الصواريخ اليمنية العابرة للبحار، رغم أن القاعدة الإسرائيلية في إريتريا، والأميركية في جيبوتي، أقرب جغرافيا من خليج إيلات، ويمكن أن تطالها الصواريخ قبل أن تفقد قوّتها التفجيرية، وحيّا المقاومة العراقية التي تستهدف المصالح الأميركية في سوريا والعراق، علما أن المصالح ليست محصورة بالقواعد المحصّنة؛ فنظام الأسد، والحكومات الفاشلة في العراق، وخطف اليمن من أهله، وسيطرة إيران على أربع عواصم عربية، والاتفاق النووي، كلها مصالح أميركية. 

بعد الخطابين، قال الجمهور إنه سمع من الأمين العام، كلاما سياسيا ذكيّا في الأول، ولمس تعقيدا استراتيجيا في الثاني، لم يدركه غيره، بفضل ذلك النوع النادر من الكيمياء التفاعلية الذي يسري بينهم

وتحدّث عن "ارتفاع عدد الشهداء، بسبب أجهزة وأنظمة التجسّس الحديثة التي يملكها العدو،" لكنه استعان بمقولة "انتصار الدم على السيف"، ليبرّر خسارته، رغم أن الدم لا يصنع سوى نصر معنوي، والأمّة التي لا تصنع سلاحها ولا تطوّره هي أمة مهزومة، قديما قالها جبران في "الويل لأمّة" بمعانٍ مختلفة. 
واعتبر النزوح سلاحا سيهزم إسرائيل، من دون أن يضع تشريد سكان جنوب النهر في الإطار نفسه، وتحدّث عن سلاح القلق أيضا، لدى العدو، من أن تتدحرج الجبهة الشمالية إلى حرب واسعة، غير عابئ بالقلق الذي يسيطر على أهالي الجنوب، ورأى أن العدو يحسب خطواته جيدا، لأن لديه خشية حقيقية من الانزلاق، وأن المقاومة تقف له بالمرصاد، لكن ضمن خطوط الردع المتفق عليها مسبقا.
وفي الختام ركن إلى الشعاراتية، لرفع الأدرينالين لدى الجمهور، أما "إفّيه" الخطاب الثاني، فكانت "عينكم على الميدان لا على الكلام".
قبل الخطابين، ظهر الأمين العام في ثلاثة تسجيلات تشويقية مصوّرة، فبدا كبطل يحمل مواصفات جذّابة، ويملك مظهرا خارجيا يترك أثرا عاطفيا في نفوس جمهوره، ركّزت على شكل اليدين، واللحية المشذبة بعناية، والبشرة المُعتنى بروتينها التجميلي، ولا داعي لنقل عبارات التغزّل بالكاريزما القيادية، التي يتمتّع بها، على ما يقول جمهوره، خصوصا الجنس اللطيف.
بعد الخطابين، قال الجمهور إنه سمع من الأمين العام، كلاما سياسيا ذكيّا في الأول، ولمس تعقيدا استراتيجيا في الثاني، لم يدركه غيره، بفضل ذلك النوع النادر من الكيمياء التفاعلية الذي يسري بينهما.
 

font change