كتب الناقد فيصل دراج عن هذه السيرة الروائية يقول:
"استطاعت سيرة محمد شكري الذاتية أن تضع كاتبها باقتدار على الخريطة الأدبية كواحد من الذين ساهموا في تأسيس الكتابة الحديثة بشكل عفوي وتلقائي ودون ادعاء بأنه يقدم أي جديد وهذه العفوية الطالعة من قلب المعاناة والألم هي أولى سمات تلك الكتابة الحداثية الجديدة التي يقدمها لنا محمد شكري في سيرته الجريئة الصادمة لأن حداثة الكتابة عنده ليست نتيجة رفض الكتابة القديمة، أو ثمرة بحث شكلي أو أسلوبي أو لغوي يستهدف التمايز والمغايرة، وإنما هي بنت الاستجابة العفوية لمتغيرات الواقع، ومحاولة تقديمه في بكارته وكليته وزخمه وحضوره المباشر وحداثة نص محمد شكري هذا، والتي تقترب كثيرا من ملامح مرحلة ما بعد الحداثة، لا تتجلى في طبيعة الكتابة وحدها بل تتخلل كل حنايا النص، وتتغلغل في كل منطلقاته فإذا كانت الحداثة تنطلق من تأكيد الاختلاف وتفرد الإنسان بين القطيع، فإن سيرة شكري الذاتية تنطلق هي الأخرى من هذا الافتراض، وتسعى إلى طرح نموذجها المتميز في اختلافه وجرأته وصداميته".
وعلى الرغم من أهمية هذه السيرة ومكانتها إلا أن شكري كتب أعمالا أدبية غيرها، إلا أنها ظلت تطارده حتى آخر أيامه، فقد كتب مجموعته القصصية "مجنون الورد" التي جمع فيها القصص التي نشرها في بداية حياته الأدبية، ونلمح في قصص المجموعة أنماطا مختلفة للإنسان الذي يبحث عن عمل ويسعى إلى ذلك بشتى الطرق، يواصل فيها شكري انتقاده وتعريته لعدد من سلوكيات المجتمع المغربي وطريقة تعامل الطبقات المختلفة بعضها مع بعض، وكيف يتحوّل ذلك كله إلى شكل أو آخر من الجنون، كما رصد في مجموعته الأخيرة "الخيمة" بعض العلاقات التي تحمل هاجسا خاصا لديه سواء في العلاقة بالمرأة أو المجتمع وما يمارسه هذا الأخير من قهر وظلم وتسلط.
التجربة الأدبية ونقد تجارب الآخرين
في كتابه "غواية الشحرور الأبيض" يتحدّث شكري بحرية أيضا عن عالم الأدب وكيفية تلقيه له وتعامله معه، منذ المقال الأول الذي يتناول فكرة "البطل والخلاص" في كتابات عدد من الكتاب الغربيين والعرب على السواء، وكيف يرسمونه وينتقد بحرية وبساطة تلك الطرق التقليدية التي يرسم بها الروائيون أبطالهم، فيتحدث عن قصة "الدفن "لمحمد زفزاف و"الشيخ والبحر" لهيمنغواي بالتوازي مع صراع "سعيد مهران" في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، ويرصد وينتقد طريقة بناء العالم الخاص بالبطل وتلك الطريقة التي يراها تقليدية للصراع بين الخير والشر، كما يذكر "هاملت" لشكسبير معلقا على وصف تولستوي له بأنه كان مصيبا في أنه يبالغ في تصوير انفعالات أبطاله الذين يقضون وقتا طويلا في حوارات طويلة مملة تبدو غير واقعية ليست ذات صلة بطبيعة الشخصيات، وإنما سيطرت عليهم أفكار الكاتب وما يود أن ينقله من خلالهم.
وفي مقال آخر يتناول شكري تجربته الأدبية بشكل خاص، وفيها يظهر انحيازه الخاص لكون الكتابة الأدبية واقعية تعتمد على تجربة الكاتب الخاصة، وأن هذا هو ما يمنحها فرادتها وتميزها. كما يتطرق إلى فكرة محاكمة الأدب وأن الكاتب ينبغي عليه أن يتعمّق في معرفة المعاناة الإنسانية لكي تكون كتابته نابعة منها، كما يخصص مقالا عن غواية الشعر وكيف كان يحلم بكتابته في بداية حياته متأثرا بكتابات بودلير وإليوت وغيرهما.
عمل محمد شكري في الإذاعة وقدم برنامجا خاصا بعنوان "شكري يتحدث" في إذاعة طنجة كان واجهته لجمهور آخر ووسيلة للتواصل مختلفة مع العالم أسهمت في توسيع معرفته ورؤيته، وكان من حسن حظ محمد شكري أن جمعته صداقة بعدد من كبار الكتاب في عصره، خاصة بول بولز الذي كتب عنه وعن أيامه في المغرب (عزلة طنجة) وكان أول من ترجم روايته وأذاع صيته في العالم الغربي، كما ربطته صداقة وثيقة بالناقد والروائي المغربي محمد برادة، وقامت بينهما مراسلات طويلة جمعها برادة بعد وفاة صديقه في كتاب أسماه "ورد ورماد" نجد فيه تفاصيل أخرى من حياته وعلاقته بالوسط الأدبي والثقافي في تلك المرحلة ، كما كتب له صديقه محي الدين اللاذقاني مقدمة كتاب "غواية الشحرور الأبيض" وأشار فيه إلى تميز كتابة شكري وجرأته وتحوله إلى أديب واعٍ بقضايا مجتمعه وعالمه قادر على التعبير عنها وعن رؤيته للأدب بشكل عام.
العودة بعد وفاته على الشاشة
بعد عامٍ من وفاته استعاد المخرج الجزائري محمد رشيد حاج سيرة محمد شكري في فيلم سينمائي بعنوان "الخبز الحافي"، أعاد الفيلم لقطاع كبير من الجمهور الجدل حول شكري وروايته، لا سيما أن المخرج حاول جاهدا أن يلتزم بما في الرواية من تفاصيل قاسية، عارضا تلك الحياة الصعبة التي عاشها محمد شكري منذ طفولته في مطلع الأربعينات حتى شبابه وما عاناه من فقر وجوع وتشرد، الفيلم إنتاج مغربي إيطالي فرنسي مشترك، وقد شارك الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2005 ومهرجان الإسكندرية عام 2006.
رحل محمد شكري عن عالمنا في الثامنة والستين من عمره بعد أن أصيب بمرض السرطان، وكانت وفاته في مدينة طنجة التي أحبها وبقي وفيا لها.