اللص يروي
وعلى الرغم من أن الكثير من تفاصيل هذه الحادثة أصبح معروفا، إذ تناولته الصحافة باهتمام بالغ، وتابعت مستجداته التي انتهت بالقبض على اللص في 2011 والحكم عليه بالسجن لثماني سنوات، غير أن اللافت في هذا الفيلم الوثائقي، للمخرج جيمي روبرتس، هو أن بطل حادثة السرقة، هو نفسه الضيف الرئيس في الفيلم الذي يمتد لـنحو ساعة و26 دقيقة، لا تخلو من التشويق، ومن اللحظات الدرامية التي ظهرت عبر مشاهد تمثيلية تستعيد الواقعة وتدعم المادة الأرشيفية الوثائقية التي يستعين بها المخرج من صور فوتوغرفية ومقاطع فيديو تستجلي وقائع هذا الحدث الذي لم تتضح ألغازه كاملة، إلى الآن، ذلك أن اللوحات المسروقة لا تزال مفقودة.
في حادثة من هذا النوع النادر، فإن ما يثير الفضول هو أن نسمع اللص نفسه، يروي الحكاية من وجهة نظره بكل تفاصيلها وملابساتها، ومن هنا تأتي أهمية هذا الفيلم، خصوصا أن اللص توميش قد أنهى محكوميته وهو الآن يتحدث بمنتهى الهدوء والوضوح والثقة، من دون أي خشية من أن تسجل شهادته كدليل ضده، ولذلك نسمعه يكاد يتفاخر بقدرته على سرقة اللوحات من مكان يفترض أن يكون الأكثر حماية وأمنا، خصوصا أننا نتحدث عن باريس المستقرة، ويروي اللص كذلك جانبا من ماضيه البعيد، وحرمانه من حنان الأب والأم، مذ كان طفلا، وهو ما خلق لديه، لاحقا، نوعا من "الخواء الروحي"، فهو يقول: "لم أحظ بتربية ورعاية الأبوين، بل ربيت نفسي بنفسي".
من هو توميش؟
ولد توميش العام 1968 في باريس، وعندما كان في السنة الأولى من عمره تعرضت والدته لحادث سير، فلم تعد قادرة على رعاية الطفل الذي أُرسل إلى البوسنة ليرعاه عمه وعمته هناك، وعندما بلغ العاشرة عاد إلى باريس محاولا الاندماج والتأقلم، دون جدوى، فعاش طفولة معذبة، وهو ما يحيلنا على رواية "أوليفر تويست"، لتشارلز ديكنز، وما عاناه بطلها من الحرمان والتهميش.
يكشف توميش في هذا الوثائقي أن والده كان يعنفه، ويعاقبه، ولم يجد حنانا أو اهتماما من أحد، وسرعان ما تورّط في سرقات بسيطة من المتاجر، كما يعترف هو، موضحا أنه كان مولعا بالكسب السريع من دون جهد. انتسب إلى الجيش، وشعر بقيمته وبأنه قد يكون مفيدا حين تتاح له الظروف، لكن بعد التسريح من الجيش شعر مجددا بالوحدة والضياع، فعاد إلى ممارسة السرقة، بعدما طوّر أدواته ومهاراته، حتى حاز لقب "الرجل العنكبوت"، إعلاميا، لقدرته المدهشة على تسلّق المباني حتى الطبقات العليا، وكان حريصا على السرقة من الأحياء الراقية والغنية في باريس مثل "حي فاش"، وفي إحدى المرات سرق لوحات لأوغست رينوار (1841 - 1919) لكن ألقي القبض عليه وسجن، ويعلق ساخرا: "أحب رينوار، لكنه تسبب في سجني"، غير أن حادثة السرقة هذه وغيرها من الحوادث تمر بشكل عابر في الفيلم، ليتم التركيز على سرقة المتحف.
وحين نصغي إلى توميش لا نرى في وجهه أي ملمح للشر، فهو يطل عبر الشاشة كرجل مسالم ودود، تورط في السرقات نتيجة الظروف والأجواء التي عاش فيها، كما أنه لم يؤذ أحدا خلال عملياته، وهو كان يتعمد السرقة من الاثرياء دون غيرهم، وأظهر، للمفارقة، عطفا واهتماما حيال مشرّدي باريس، في لفتة تذكّرنا بشخصية روبن هود، فكان يصطحب بعضهم الى المطاعم والحانات، مثل المشرّد غيوم الذي يظهر في هذا الوثائقي ويقر بالاهتمام الذي حظي به من جانب توميش، كما أن إحدى صديقات توميش تقدم في هذا الوثائقي شهادة عن توميش وتصفه بالصديق الوفي والمخلص.
الضربة الكبرى... والتوبة
تماما كما يحدث في الأفلام حين يقرر البطل الإقدام على عملية أخيرة والتوبة بعدها، لكن يتم القبض عليه، يوضح توميش أنه ملّ السرقات الصغيرة ومن إنفاق ما يحصل عليه في الملاهي والحانات، والعودة مجددا إلى السرقة، فقرر القيام بعملية سرقة معتبرة أخيرة، ويترك هذه "المهنة السيئة" الى الأبد ، بعد أن يحصل على مبلغ مُجزٍ يعينه على بدء حياة جديدة، قائلا إنه كان قد قرر شراء قارب والسفر في البحر بعيدا من دون أن يوضح وجهته أو هدفه، وكأن في داخله أمنية غامضة وهو أن يهجر الأرض ومن عليها ويتوه في زرقة البحر للانهائية، منتقما من ماضيه القاتم.
كان توميش يتخلص من مسروقاته من خلال تاجر التحف واللوحات الفرنسي كورفيز الذي شجعه على سرقة لوحات قيّمة من المتحف الباريسي، ليحصل في المقابل على مبلغ مجز. يروي توميش كيفية استعداده لهذه العملية الدقيقة والمحفوفة بالأخطار والتي تتطلب الكثير من المهارة والحرفية، فراقب المتحف لأيام، وتعرف إلى مخارجه ومداخله، ونوبات حراس الأمن الليلية، وشاهد الكنوز الثمينة المعلقة على جدران المتحف، واكتشف أن أجهزة الإنذار معطلة، وهو ما أقرّ به مسؤولو أمن المتحف في التحقيقات، وحين عرف كل هذه التفاصل، اشترى العدّة المطلوبة، وتردّد على المتحف لخمس ليال كي يفك براغي إطار النافذة التي تسلل منها في الليلة المشهودة، ونجح في سرقة اللوحات الخمس. حمل هذه الكنوز في صندوق سيارته ومضى بها إلى تاجر التحف كورفيز الذي تسلمها منه في مرأب سيارات في مقابل 50 ألف دولار لكل لوحة، وعاد إلى منزله، بعد ليلة طويلة، مطمئنا، ليفتح التلفزيون ويجد أن خبر السرقة يتصدّر نشرات الصباح.