لم تكن الحرب على غزة في المجال السياسي والاجتماعي اللبناني كسواها من الحروب التي تأتي مسبوقة بتأويلاتها ومحاصرة بمآلاتها ونتائجها المحددة؛ فقد تجاوزت فيما أثارته من تحولات ومن مواقف كل ما سبق استعماله من توصيفات وتحديدات وقراءات أجبرت الجميع على إعادة إنتاج مواقفهم في سياق مربك وإشكالي وغير مألوف لأنه يتعلق بحدث سيال ومتفجر، يراكم سلاسل من الآثار بعيدة المدى يمكن اختصارها في عناوين عريضة أبرزها ما قرره الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في خطابه الأخير من ترك القرار للعمل الميداني المباشر، وفي ذلك الرفض اللبناني العام للحرب الذي تكرس بعد التأكد من أنها في حال اندلعت فإنها ستكون شاملة وعامة.
الكلمة للميدان
في خطابه الثاني خلال أيام كان لافتا أن الأمين العام لـ"حزب الله" ارتضى بأن ينزع عن نفسه الهالة القيادية المطلقة التي تجعله مسيرا للأحداث والقرارات وممسكا بزمامها ليترك الأمر للميدان. يعني ذلك أن القيادات العسكرية باتت صاحبة القرار فيما يخص توسيع الحرب أو الاكتفاء بالدرجة السائدة منها، وأنه قد بات ملحقا بقراراتها وتقتصر مهمته على تأمين الغطاء لها وتبرير ما قد تقدم عليه.
الميدان الذي مُنح رتبة صانع القرارات يدفع نصرالله إلى التراجع إلى ما يسميه بعض المعلقين رتبة الناشط أو المراقب، إذ إن من يتحكم فيه ليست القيادات العسكرية التابعة لـ"حزب الله" والتي منحت شارة القيادة والتحكم، ولكن القرار العسكري الإسرائيلي الذي تعمد استباق خطاب نصرالله برسالة مهينة تجاوزت حدود الاشتباك بأكثر من 40 كيلومترا عبر استهداف شاحنة في منطقة الزهراني.
ذلك التراجع هو الحيلة التي يبرر بها نصرالله موقفه من عدم الخوض في المعركة الفلسطينية التي قامت كل آيديولوجيته على أساس الدفاع عنها. لكن لا يعود سبب الإصرار على ربط النزاع مع الإسرائيليين في لحظة الحرب على غزة إلى عودة إلى العقلنة والركون إلى متطلبات المصلحة اللبنانية بقدر ما يكشف عن هشاشة إمكانية الاستثمار في الساحة اللبنانية، وعن رغبة في نقل المعركة إلى ميدان آخر ترى فيه إيران درة استثماراتها وهو الميدان السوري، والذي يمكن من خلاله تركيب مسارات التفاوض مع الأميركيين وبنية التفاهمات وتقاسم النفوذ.