تحولات لبنانية على إيقاع حرب غزة

AFP
AFP

تحولات لبنانية على إيقاع حرب غزة

لم تكن الحرب على غزة في المجال السياسي والاجتماعي اللبناني كسواها من الحروب التي تأتي مسبوقة بتأويلاتها ومحاصرة بمآلاتها ونتائجها المحددة؛ فقد تجاوزت فيما أثارته من تحولات ومن مواقف كل ما سبق استعماله من توصيفات وتحديدات وقراءات أجبرت الجميع على إعادة إنتاج مواقفهم في سياق مربك وإشكالي وغير مألوف لأنه يتعلق بحدث سيال ومتفجر، يراكم سلاسل من الآثار بعيدة المدى يمكن اختصارها في عناوين عريضة أبرزها ما قرره الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في خطابه الأخير من ترك القرار للعمل الميداني المباشر، وفي ذلك الرفض اللبناني العام للحرب الذي تكرس بعد التأكد من أنها في حال اندلعت فإنها ستكون شاملة وعامة.

الكلمة للميدان

في خطابه الثاني خلال أيام كان لافتا أن الأمين العام لـ"حزب الله" ارتضى بأن ينزع عن نفسه الهالة القيادية المطلقة التي تجعله مسيرا للأحداث والقرارات وممسكا بزمامها ليترك الأمر للميدان. يعني ذلك أن القيادات العسكرية باتت صاحبة القرار فيما يخص توسيع الحرب أو الاكتفاء بالدرجة السائدة منها، وأنه قد بات ملحقا بقراراتها وتقتصر مهمته على تأمين الغطاء لها وتبرير ما قد تقدم عليه.

الميدان الذي مُنح رتبة صانع القرارات يدفع نصرالله إلى التراجع إلى ما يسميه بعض المعلقين رتبة الناشط أو المراقب، إذ إن من يتحكم فيه ليست القيادات العسكرية التابعة لـ"حزب الله" والتي منحت شارة القيادة والتحكم، ولكن القرار العسكري الإسرائيلي الذي تعمد استباق خطاب نصرالله برسالة مهينة تجاوزت حدود الاشتباك بأكثر من 40 كيلومترا عبر استهداف شاحنة في منطقة الزهراني.

Reuters
قذيفة فوسفورية تنفجر في سماء قرية قرب الحدود اللبنانية - الاسرائيلية في 12 نوفمبر

ذلك التراجع هو الحيلة التي يبرر بها نصرالله موقفه من عدم الخوض في المعركة الفلسطينية التي قامت كل آيديولوجيته على أساس الدفاع عنها. لكن لا يعود سبب الإصرار على ربط النزاع مع الإسرائيليين في لحظة الحرب على غزة إلى عودة إلى العقلنة والركون إلى متطلبات المصلحة اللبنانية بقدر ما يكشف عن هشاشة إمكانية الاستثمار في الساحة اللبنانية، وعن رغبة في نقل المعركة إلى ميدان آخر ترى فيه إيران درة استثماراتها وهو الميدان السوري، والذي يمكن من خلاله تركيب مسارات التفاوض مع الأميركيين وبنية التفاهمات وتقاسم النفوذ.

 

ربما تكون حرب غزة قد رسمت ملامح نهاية قيادة نصرالله السياسية ومرجعيتها والتي كانت ترتبط بثنائية السياسي والعسكري لتخلي الساحة لعسكرة شاملة لا تعترف بالسياسة

ما يعزز هذا الانطباع أن الضربة الأكبر التي تلقاها "حزب الله" في هذه الفترة كانت في سوريا حيث خسر سبعة من عناصرة دفعة واحدة بقصف أميركي على مواقع إيرانية، وكذلك في توكيله جهات فلسطينية متنوعة بإطلاق الصواريخ على المستوطنات انطلاقا من المناطق الحدودية في محاولة لجعل المعركة تتخذ في طابعها الأعرض امتدادا لعنوان فلسطيني، بينما يكتفي هو بدور المساندة والدعم المنضبط في انتظار ما سيقرره ميدان أفرز في الساحة الفلسطينية شخصية حربية احتلت المشهد وغطت على حضور نصرالله بما لا يستطيع موازاته، وهي شخصية الناطق العسكري باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" التي سرعان ما تحولت إلى أيقونة بصرية مرتبطة بالقتال والمواجهة بدت معها صورة حسن نصرالله الأقرب إلى المحاضر أو الناشط هزيلة وهشة.
لا نعرف ما إذا كان نصرالله عمليا يعلن استقالته عن قيادة الحدث تمهيدا لظهور قائد ميداني عسكري يعيد إلى "حزب الله" الوهج الذي فقده بانكفائه عن خوض معركة لا يريد خوضها، ولكن يبدو أن قرار فرضها عليه قد اتخذ إسرائيليا وأميركيا في ظروف لا تسمح بأن يكون نصرالله رجل المرحلة، بل تحتاج إلى شخصية أخرى على غرار عماد مغنية. وبذلك ربما تكون حرب غزة قد رسمت ملامح نهاية قيادة نصرالله السياسية ومرجعيتها والتي كانت ترتبط بثنائية السياسي والعسكري لتخلي الساحة لعسكرة شاملة لا تعترف بالسياسة.

رفض الحرب


لطالما كانت الحروب التي يستجرها "حزب الله" على لبنان مدخلا لتظهير الانقسامات وخلق فرز بين جمهور يستقبلها بالتأييد ورفع القبضات وشعارات النصر الدائم، وبين جمهور يعبر عن الخوف والرفض. يستقبل اللبنانيون الآن مشاهد الأهوال القادمة من غزة برعب، ويأخذون التهديدات الإسرائيلية- التي كان آخرها ما أدلى به وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حول تحويل بيروت إلى غزة ثانية في حال تمادى "حزب الله"- على محمل الجد.
عنوان شرعية الحروب في لبنان كان يرتبط بامكانية توظيفها في إطار تركيب سياقات غلبة داخلية. من هنا كان تشريع انخراط الحزب في الحرب السورية، وكذلك افتعاله لحروب مع إسرائيل، ويضاف إلى ذلك بعد آخر يتعلق بمحدودية ردود الفعل والنتائج المترتبة عنها وإمكانية تصورها واحتوائها أو تقديرها.
 

الإبادة التي تجري أمام عين العالم ورعايته في غزة خلقت رعبا لبنانيا شاملا من الحرب نسف كل الحسابات الضيقة، فقد كان بعض اللبنانيين يعتقدون قبل انكشاف النوايا الإسرائيلية أن لا مشكلة في وقوعها لأنها ستكون محدودة وضد طرف محدد ومناطق محددة، وتاليا فإنها ستطال "حزب الله" وبيئته وحسب

يجد اللبنانيون عموما وجمهور الحزب خصوصا أنفسهم أمام مشهد جديد يقع خارج كل الحسابات. البوارج المتقاطرة إلى البحر المتوسط وشبكة الدعم العالمي لإسرائيل والخلافات مع العرب والفراغ الرئاسي القائم والفراغ الوشيك في قيادة الجيش وغياب أي حاضنة دولية أو إقليمية يجعل الانخراط في الحرب كارثة مفتوحة وشاملة بكل المقاييس، ولا يمكن التحكم فيها وإدارتها أو توظيفها.

AP


الإبادة التي تجري أمام عين العالم ورعايته في غزة خلقت رعبا لبنانيا شاملا من الحرب نسف كل الحسابات الضيقة، فقد كان بعض اللبنانيين يعتقدون قبل انكشاف النوايا الإسرائيلية أن لا مشكلة في وقوعها لأنها ستكون محدودة وضد طرف محدد ومناطق محددة، وتاليا فإنها ستطال "حزب الله" وبيئته وحسب، وبذلك فإن ما ستسفر عنه في نهاية المطاف سيكون التخلص من سطوته وكسرها، مما يتيح المجال لنشوء معادلات سلطة جديدة في البلد.

AFP
من آثار القصف على ضاحية بيروت الجنوبية في 28 أغسطس 2006


كان هذا التصور سائدا في أول أيام الحرب، ولكن الآلة الدعائية الإسرائيلية عملت على نسفه وذهبت في اتجاه يكرر منطق التعامل مع غزة. فكما جعلت من كل من تستهدفهم آلتها الحربية من الفلسطينيين ضحايا لـ"حماس" فإنها تسعى إلى تحويل كل من تستعد لإهراق دمائهم من اللبنانيين ضحايا "حزب الله". وقد تكون المفارقة أن الإسرائيليين لا يفرقون بين اللبنانيين بل ينظرون اليهم ككتلة واحدة، في حين أن اللبنانيين لا ينظرون إلى أنفسهم بالشكل نفسه، ويصرون على إظهار تناقضاتهم واختلافاتهم، وهكذا فقد تكون التهديدات الإسرائيلية الجدية قد خلقت وحدة عامة لبنانية بعنوان الرعب من الآتي والرغبة في تجنبه.
كل ذلك أعاد تفعيل السياسة في البلد والبحث في محاولة تحديد موقع للبلد يجعله مناصرا للحق الفلسطيني من دون الانخراط في الحرب أو شرعنة ما يسمح به الحزب من انخراط للفصائل الفلسطينية في العمل المسلح وقصف المستوطنات من لبنان، وكذلك في إعادة وصل البلد بمسار عربي عام بعد أن كان قد تحول إلى تهديد للأمن العربي.

يستنتج اللبنانيون أنهم ليسوا في العالم ومنه. يحاصرهم الانتساب الإكراهي لصورة "حزب الله" وتوصيفاته التي تحولهم إلى ضحايا مجانين بلا وزن ولا قيمة

موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي كان لافتا في هذا الصدد، إذ إنه اعتبر ما يحصل في فلسطين إبادة وحشية كما شجب التدمير الممنهج للمدارس والمستشفيات والكنائس والجوامع وتبنى حل الدولتين ومضمون قمة الرياض.
هل من الممكن أن يشكل رفض الحرب مسارا سياسيا يعيد تركيب سياقات العقلنة في البلد ويسمح بإعادة إنتاج العلاقة مع العرب والعالم، أم إن لحظة الحرب التي تنذر بالتمادي والتوسع ستبتلع كل العناوين الأخرى؟ الأرجح أن ذلك الرعب الذي يبديه اللبنانيون عموما لا يستطيع عمليا أن يشكل حالة ضاغطة وفاعلة، بل لا يعدو كونه نداء استغاثة يوجه لعالم أغلق آذانه أمام صرخات أهل غزة وأشاح بعيونه عن مشاهد الإبادة التي تفوق الخيال والتي تتراكم في مستشفياتها وساحاتها وبيوتها.
يستنتج اللبنانيون أنهم ليسوا في العالم ومنه. يحاصرهم الانتساب الإكراهي لصورة "حزب الله" وتوصيفاته التي تحولهم إلى ضحايا مجانين بلا وزن ولا قيمة. يحاولون الدفاع عن حقهم في الوجود والحياة، ولكن القرار ليس لهم وكذلك لم يعد عند نصرالله بل عند رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو المحاصر بضرورة تحقيق إنجاز عسكري في كل الميادين التي تمثل في نظره تهديدا لإسرائيل، والتي يشكل لبنان- الذي صار مختصرا في حزب مسلح بمشروع عابر للحدود- أبرز عناوينه.

font change

مقالات ذات صلة