لا يفارقني القلق على اللغة العربيّة في عصرنا الرّاهِن. ويضطرني واقعها، خصوصا في ما يتعلق بالكتابة الروائية وبلغة الترجمة وفي الصحافة، وحتّى في بعض الشّعر، للعودة إلى مشكلات العلاقة بين الفصحى والدارجة.
فهذه، في اعتقادي، مسألة جوهرية لأنها ترتبط بهوية الشعب نفسه وليست مجرد مسألة تعليمية.
الفوارق بين العربية الفصحى واللهجات، أو اللغات العربية المحليّة تبلغ، في بعض الأحيان، درجة كبيرة. بل يميل كثيرٌ من الأشخاص إلى الكلام باللغة الأجنبية مع عربيّ من بلدٍ آخر.
لا شكّ في أنّ معرفة لغة أو لغاتٍ أجنبية مهمّ بل ضروريّ. ولئن كان الأمر كذلك، فماذا نقول عن ضرورة إتقان اللغة القوميّة؟
هناك، أحياناً، شكاوى، لدى بعض الطلاّب، من صعوبة اللغة العربية، بسبب الفوارق بين الفصحى والمحكيّة. لكن...
إذا كان الطالب العربيّ يتعلّم الكلام باللغة الأجنبيّة ويتكلّم بها في الصّفّ وخارجه، فلماذا لا يتعلّم الكلام بالفصحى، لغته- الأمّ، في الصفّ على الأقلّ؟ فإضافةً إلى أنّ هذا الأمر هو في مصلحة الطالب،بالتّأكيد، فإنّه يستعيد للّغة القوميّة موقعَها وحيويّتَها، ويدعَمُ ظروفَ تفاعلها كما يدعم اغتناءها بمفرداتِ التطوّر التّاريخيّ والعلميّ والحياتيّ العمليّ. وينبغي ألاّ ننسى أنّ الطلاّب، في أيامنا، يشكّلون نسبة كبيرة من السكّان، وفي هذا ما يجعل القضيّة قوميّةً وطنيّة عامّة ومعرفيّة بامتياز.
لا جدال في أنّ اللغة المحكيّة غنيّة، هي أيضاً، بتجارب وتعبيرات وتراث إنساني شعبيّ قوميّ؛ وليس التنازل عنها تماماً محور القضية كما هو واضح. بل إنّ انزلاق بعض التعبيرات المعرفية اليومية إلى الفصحى لا يضيرها، وهو ما حصل على امتداد التاريخ. وفي المقابل فإنّ انزلاق المفردات الفصحى إلى المحكيّة يُغنيها ويقرِّبها من الفصحى كما يقرّب الفصحى نفسها من عالم المصطلحات الدّخيلة والتجارب اليوميّة.
حضور اللغة الحيّ المباشر في العالم اليوميّ يدعم التواصُل ويعزّز فضيلة التّقارُب والتّكاتُف بين العرب النّاطقين بها على اختلافالأقاليم العربية ولهجاتها
لكن، بانتظار هذا التّقارُب أو هذا التّفاعُل، يتوجّب تشجيع الكلام بالفصحى، في دروس اللغة العربية والأدب العربيّ، على الأقلّ، وفي المجالس واللقاءات العامّة أو الإذاعيّة. لأنّ الفصحى لغةٌ حيّة، كما أنها لغةَ النّصّ الدينيّ ولغتنا القوميّة، هي الآن لغة حاضرة في الحياة اليومية ثقافةً وعملاً وتَواصُلاً: في المذياع والتلفزيون والجريدة والبرلمان ومختلف المجالس أو بعضها، وفي الإعلان. فضلاً عن حضورها في الندوات والمجالس الثقافيّة والحكومية وغير الحكومية وفي المدارس والكتب.
هذا علماً بأنّ أساتذة اللغات الأجنبية يفرضون، في صفوفهم، الكلام باللغة التي يُدَرِّسونها؛ وليس أسهل ولا أقرب إلى الطلاّب من اللغة العربيّة الفصحى. وبالإضافةً إلى الضرورة المبدئيّة ومصلحة الطالب، نعرف أنّ اللغة تحيا وتغنى وتتطوّر بالممارسة وبحضورها وحياتها في عالم التّواصُل، تماماً كاغتنائها في ميدان التعبير المباشر والكتابيّ الأدبيّ والعلميّ.
بل إنّ حضور اللغة الحيّ المباشر في العالم اليوميّ يدعم التواصُل ويعزّز فضيلة التّقارُب والتّكاتُف بين العرب النّاطقين بها على اختلافالأقاليم العربية ولهجاتها.
الواقع أنّ المشكلة هي، أولاً، مشكلة منهج ودربة.
الموضوع مطروح ولا أزعم أنني أملك الجواب الحاسم، على الرغم من السنوات الثلاثين التي أمضيتها في تعليم العربية.
لكن، إضافةً إلى ذلك، وفي الوقت نفسه، لا بدّ من خطوات تبدأ بدراسات ومناقشات وتجارب لتضييق الهوة بين اللغتين، لا سيما في بعض الأقاليم العربية حيث التّفاوُت بين المحكية والفصحى لا يُستَهانُ به. وهذا موضوعٌ مُلِحّ، وأكثر من موضوع قوميّ أو وطنيّ، ما دام التّنازُلُ عن الفصحى، كتابةً وقراءةً، غيرَ واردٍ أو مطروح، ولا مصلحة فيه لأيّ بلد، ولا يخدم العمق الثقافيّ والمستوى الثقافيّ ولا الاقتصادي فضلاً عن القوميّ؛ كما أنّ هذا التنازل سيعزل المُتَعلّمَ عن تراث قومه وعن البلدان العربية الأخرى أو يزيد التّواصلَ صعوبةً.