تمضية ثلاث ساعات ونصف الساعة في السينما، لمشاهدة فيلم درامي أميركي موجع، كانت بمثابة رؤية حقيقة لا نزال نعيشها، وسيناريو يعكس ما حولنا من قتلٍ مستمر. فيلم "قتلة زهرة القمر" يأتي لإيقاظ القلب كلما حدثت إبادة في أيّ مكانوزمانفي هذا العالم، وتحت مسميات مختلفة، وهذا بلا شك دور الإبداع العظيم، الذي أعاد قصة إبادة السكان الأصليين في عشرينات القرن الماضي، في ولاية أوكلاهاما الأميركية التي تسكنها قبيلة "الأوساج"، أو أمة "الأوساج" بمعنى أصح، وهو اختصار لمسمّى سكان المياه الوسطى، بوصفهم السكان الأصليين وحكام تلك الأرض الأقوياء منذ آلاف السنين، أي قبل الوجود الأميركي الذي أطلق عليهم تسمية الهنود الحمر. يلفت زمن الحكاية، ومرور مئة عام، أي بدايات دخول العالم في الحداثة وظهور القوانين الإنسانية والحضارية.
لا عجب أن مخرج الفيلم هو مارتن سكورسيزي، مخرج الأفلام الملحمية، الذي يقول الكثير من خلال جديده هذا، وبأسلوبه المميز، لكن الفيلم ينتهي وتشعر بأنه لم يقل الكثير أيضا، حول سلسلة جرائم وقعت لإبادة "الأوساج" ملّاك الأراضي والخيرات في محمياتهم الممتلئة بالنفط، حيث المنازل المترفة وحيث تلبس النساء اللآلئ والألماس والفرو، مما دعا بعض الأميركيين، وفي الأصح عصابة يترأسها ويليام كينغ هيل وهو شخصية سياسية أميركية، ومعروفة تاريخيا، ويمثل دوره روبرت دينيرو، زعيم الجريمة في مقاطعة "الأوساج" في أوكلاهاما، إلى التخطيط لجمع ثروة على حساب هؤلاء وحياتهم، ويوضح الفيلم قبل أي شيء ماسونيته وهدفه الأسمى من الثروة وكيف تُسلب وبأسلوبٍ بطيء، ودون أن يخطر في بال أحد، فيرسل من يُوقعون بنات "الأوساج" في الحب، كي يتزوجوهن، وينجبوا منهن، ويعيشوا معهن حياة طبيعية، قبل الشروع في القتل البطيء والمدروس لأولئك الزوجات الأوساجيات، حتى يصبح الإرث قانونيا لهم.
كأن المخرج يؤكد أن التاريخ يمضي بالطريقة ذاتها، والثروة مطلب الزعماء، كاشفا كيف حرر النفط الخام أمة الأوساج وهو يتدفق بكثرة في أراضيهم منذ اكتشافه في البراري وبين مياههم، لتفضح هذا الدراما التاريخية البارعة الأذى وكيف يعمل ببطء إن وجدت الثروة
يتحسّس الفيلم المناطق الخفية لـ"الأوساج"، من خلال قصة استهداف أسرة من أم وأخوات أربع بسبب ثروتهن النفطية، ونرى مشاهد رومانسية لزواج أرنست (ليوناردو دي كابريو) وهو عضو في العصابة التي تمتهن السرقة والجريمة، من مولي (ليلي غلادستون، هندية أميركية) وهي في الأصل ممثلة مسرحية بارعة. ويكمل الفيلم انتقالهما بعد زواجهما إلى منزلها حيث تعيش مع والدتها المريضة وشقيقاتها المتزوجات من أميركيين. تبدو القصة رومانسية دافئة، كزوجين حنونين ينجبان أطفالا، أما الجانب الخفي والمدروس فهو أن النساء ضحيات أزواجهن. وتظلّ مولي الناجية الوحيدة في أسرتها على الرغم من الإبرة اليومية التي يحقنها بها زوجها على مدى شهور ظنا منها أنها الأنسولين.
لا يستطيع المشاهد التنبؤ بأحداث الفيلم، بسبب المفاجآت كل حين، وغالبيتها مرعبة، مع لحظات شرسة تنهش المشاعر، وهي تذّكر بأفلام المخرج السابقة، وكلها حققت النجاح الجماهيري والنقدي، خاصة "كازينو" و"عصابات نيويورك" و"سائق التاكسي"، و"الإغواء الأخير للمسيح"... إلخ.
كأن المخرج يؤكد أن التاريخ يمضي بالطريقة ذاتها، والثروة مطلب الزعماء (المجرمين)، كاشفا كيف حرر النفط الخام أمة "الأوساج" وهو يتدفق بكثرة في أراضيهم منذ اكتشافه في البراري وبين مياههم، لتفضح هذا الدراما التاريخية البارعة الأذى وكيف يعمل ببطء إن وجدت الثروة.
من يقرأ الرواية التي اقتبس منها الفيلم، يجدها قطعة إبداعية متكاملة، أما الفيلم فيشبه اللغز، كأنه قطع تم تجميعها. لفتتني رمزية الذباب الذي يأتي على الوجوه كل حين ويتم ضربه دون رؤيته، وكذلك بداية الفيلم في مشهد شبه خيالي لأجساد "الأوساج" الملطخة بالنفط، وكأنه نذير للدم، وصور ظلية على خلفية فراغ أحمر وبرتقالي، لرجال عاديين يعيشون في جحيم، من صنع الإنسان، وصورة مرعبة لأميركا القاسية مع الحب والقتل والجشع والحزن... وهي طريقة المخرج لسرد القصص، وخاصة الشر، على الرغم من أن الأبطال الحقيقيين كانوا ثلاثة فقط، لكن في نسيج الفيلم هناك العشرات من الشخصيات الأخرى ومن الوجوه المألوفة، لتأتي ملحمة المخرج قصة رومانسية ودرسا في التاريخ الدموي لجرائم القتل، متفقا مع رؤية الكاتب ديفيد غران مؤلف "قتلة زهرة القمر" الصادر عام 2017، وهو يؤرخ سردا قصة رجال تعاملوا مع القتل كأمر عادي، يأكلون ويشربون بين ضحاياهم، ويتآمرون لقتلهم.