يطلق رياض نعمة الفنان العراقي المقيم في بيروت على معرضه في دار النمر "لا شيء"، ويلح في لوحاته على أن يدمغ أنوف أشخاصه وبورتريهاته بحمرة هي عادة القِمع الذي يلبسه أنف المهرج. نحن إذن أمام دليلين لقراءة المعرض، خاصة أن الأنف الأحمر هذا مطبوع على كل اللوحات، ولا تخلو منه إلا لوحة حملت اسم "لينين"، مع أن اللوحة ذاتها مدموغة عند الجبين بأحمر خفيف.
ندخل إلى صالات النمر فالدار المناسبة جدا لمعرض تشكيلي، تستضيف على جدرانها وصالاتها الأربع لوحات نعمة المعروضة بوفرة، وبقدر من التمايز الذي يجعل المعرض، مع إصراره على أن يملك وجهة واحدة وإيعازا مشتركا، متعدّد اللوحات. سنرى بورتريه شخصية للرسام، عبارة عن شخصين يحملان وجهه ويتقابلان وسط سديم لوني. لوحة كبيرة إلى جانبها على الحائط المقابل: رأس يخرج من تحت غطاء على سرير. اللوحتان من الأسلوب ذاته الذي يمت إلى واقعية حديثة، لكن اللوحة في هذين العملين وسواهما لا تكتفي ببعد واقعي، فاللوحات تحمل إلى جانب ذلك ما يمكن اعتباره فكرة مصاحبة. الوجوه كما سنرى، في عدد من اللوحات، مربعة تحمل وجوها مضخمة ليست، على الرغم من قوة تعبيرها، لتقف عند التمثيل الواقعي، إذ أن الشكل يدخل أحيانا في لخبطة وإدغام، يجعلان اللوحة تكاد تفقد موضوعها، والوجه المرسوم ينطمر تحت مشحات لونية مختلطة.
تقترب اللوحة من أن تكون فورانا لونيا لا يمت الى واقع جلي، سنكون أحيانا أمام أداء شبه واقعي، إذ اللوحة عند ذلك تكاد تهرب من إطار واقعي، والألوان بالكاد تمسك نفسها في حدود ومساحات مضبوطة
تقترب اللوحة عند ذلك من أن تكون فورانا لونيا لا يمت الى واقع جلي، سنكون أحيانا أمام أداء شبه واقعي، إذ اللوحة عند ذلك تكاد تهرب من إطار واقعي، والألوان بالكاد تمسك نفسها في حدود ومساحات مضبوطة، بل تبدو تقاتل ضد ذلك وتميل إلى الإفلات منه، الأمر الذي يتحول في بعض اللوحات إلى نوع من هيجان لوني، تتداخل فيه أشكال ووجوه يسيل بعضها على بعض، تتشابك هذه وتخرج اللوحة من أي واقع، إلا ذلك الذي يتوارى من وراء المدونة اللونية. لا بد هنا من أننا نتكلم عن ملونة نعمة التي تملك أحيانا تدقيقا وتغورا ونتوءا وجوانية، تذكر أحيانا بلوسيان فرويد، لكن ملونة نعمة هي بصورة إجمالية دسمة، وذات طبقات يركب بعضها بعضا، ويضيف طبقات إلى بعضها، ويوازن بين الدمغ والشخبطة والتدقيق، الأمر الذي يذكر هذه المرة، ولو من بعيد، ببيكون الإنكليزي. هذه الملونة هي على الدوام في حدود الواقع السيال الملخبط والخروج منه.
نعود إلى دليل المعرض، العنوان الذي يمت إلى اللاشيء ويتعنون بقصيدة تحمل العنوان نفسه لمحمود درويش. الدليل الثاني هو أنف المهرج. في وسعنا أن نقول ازاء ذلك أن "لا شيء" هو حيلة المعرض، الذي يبدو دائما في لوحاته على سبيل الخروج من موضوع اللوحة، ومن اسمها بالتالي. لا نجد في المعرض ما يمت إلى اللا شىء، بل على العكس من ذلك هناك إفراط في الشيئية، إفراط تكاد معه الوجوه تتراكب بعضها على بعض، والألوان تكاد تسيل من أمكنتها، وتلطخ ما يجاورها وما يتبعها، نحن هكذا نجد غليانا من الأشياء أو شيئا يغلي بنفسه. أما الأنوف الحمراء فهي هنا بعيدة ان تكون لمهرجين. الوجوه التي تركبها هذه الأنوف، هي غالبا ودائما بعيدة عن أن تكون لمهرجين. إنها على الدوام متوترة صارخة منفّرة مشوهة عابسة ومتجهمة، وهي باستمرار زاعقة هائجة. وجوه كهذه لا يجعلها الأنف الأحمر إلا أكثر غربة وتنفيرا. الأنف الأحمر هنا يكاد يكون جزءا من غرابتها ولخبطتها. مع ذلك فإن فنانا متينا كرياض نعمة يحسن هكذا اللعب على التضادات، بل يجعل منها صوتا خاصا للوحة ونوعا من إيقاع معاكس، بل هنا نستجمع فكرتنا عن المعرض ليس فقط في لوحات عدة، ولكن أيضا بفصول متعدّدة، يمكنها أن تجعل من المعرض رواية واحدة، تتحول معها اللوحات العديدة إلى ما يكاد يكون فكرة شاملة، تتحوّل معها التضادات الداخلية والخارجية، إلى ما يشبه أن يكون لغة خاصة وتداعيات لذات الفكرة وذات الموضوع.