لم تبد إسرائيل منذ إقامتها قبل 75 عاما، معزولة ومنبوذة في الضمير العالمي، ومن ضمنه في الدول الغربية واليهود فيها، كما هي اليوم. وذلك كردة فعل على جرائمها وتوحشها في القتل الجماعي للفلسطينيين بكل ما في ترسانتها العسكرية من أسلحة وذخيرة، من البر والبحر والجو، وفي قطعها المياه والكهرباء والوقود والغذاء والدواء عنهم، وفي محاصرتها إياهم، وتدميرها لأماكن سكنهم ولمستشفياتهم ومدارسهم وأفران خبزهم وبناهم التحتية، في مشهد علني لإبادة جماعية لا يشبهها فيه ربما إلا ما فعله جيش النازية في البلدان الأوروبية التي احتلها إبان الحرب العالمية الثانية. كأن الضحية التي تدعي تمثيل يهود العالم تتماهى مع جلادها.
أكبر دلالة على ذلك الحراكات والبيانات والمظاهرات الحاشدة التي شهدتها عواصم الدول الغربية ومدنها، في واشنطن ونيويورك ولندن وبرلين وباريس ومدريد وفيينا وأمستردام وأثينا، وأيضا في إسطنبول وجاكرتا وكوالالمبور، مثلا، والتي رفعت فيها شعارات تطالب بوقف حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، وتؤكد أن حياة جميع البشر متساوية، وأن حق الحرية والمساواة والكرامة ليس جغرافيا ولا عرقيا، فهو لكل البشر، وضمنهم الفلسطينيون (اللافت أن روسيا والصين والهند خارج التغطية مع الأسف).
ثمة معان عديدة لتلك المظاهرات، يتمثل أهمها في: أولا، انكسار احتكار إسرائيل لمكانة الضحية في الضمير العالمي، وهو الأمر الذي بدأ مع الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، والذي لم تستطع إسرائيل استعادته، في محاولتها ادعاء الدفاع عن النفس، ووصم "حماس" بالإرهاب، إذ بدت هذه التهمة مجرد تغطية على السياسات الاستعمارية والعنصرية والعدوانية التي تنتهجها إسرائيل ضد الفلسطينيين، منذ إقامتها قبل 75 عاما، ومنذ احتلالها الضفة الغربية وغزة قبل 56 عاما (في حرب 1967)، وكتغطية أيضا على حرب الإبادة التي تشنها ضد فلسطينيي قطاع غزة.
بيّنت المظاهرات والحراكات الداعمة لفلسطين تسرع نعاة قيم الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، لاسيما الذين لا يؤمنون بها أصلا، ويعتبرونها قيما أو ثقافة غربية
ثانيا، بدت مجتمعات الدول الغربية أكثر يقظة إزاء الدعاية الإسرائيلية، وإزاء محاباة بعض حكوماتها لإسرائيل، على حساب الحقيقة والعدالة، وحتى على حساب ضمان حق حرية الرأي لمواطنيها، والحق في المعارضة في البلدان الأوروبية ذاتها، التي باتت الحكومات تضيق عليها، في سعيها للمساواة الخاطئة والمجحفة، بين معاداة سياسات إسرائيل ومعاداة السامية، كتغطية لدعمها اللامحدود لإسرائيل، ما يبين قوة المجتمعات المدنية في تلك البلدان؛ إذ اتضحت، هذه المرة، الصلة الوثيقة بين الدفاع عن حرية الرأي وحق المعارضة في تلك البلدان، وبين الدفاع عن قضية فلسطين باعتبارها قضية تحرر وقضية عادلة في الضمير العالمي.
ثالثا، بينت تلك المظاهرات والحراكات تسرع نعاة قيم الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، لاسيما الذين لا يؤمنون بها أصلا، ويعتبرونها قيما أو ثقافة غربية، أو الغاضبون بدعوى المعايير المزدوجة التي تنتهجها بعض حكومات الغرب وتوظفها وفقا لحساباتها الخاصة. والمهم هنا أن الحراكات الشعبية في الدول الغربية ذاتها، في المظاهرات والبيانات وفي مواقف أكاديميين وكتاب وفنانين، أكدت على إنسانية تلك القيم وترسخها واعتبارها ثمرة لتطور البشرية كلها، وليست حكرا على جماعة بشرية ما، كما أكدت أنه لا تمييز بين شخص وآخر أو شعب وآخر، بسبب الجغرافيا أو العرق أو الدين أو أي شيء آخر، وذلك في دلالة أيضا على ترسخ ثقافة الديمقراطية الليبرالية في تلك المجتمعات.
"ليس باسمنا"
رابعا، تلك المظاهرات بينت إخفاق إسرائيل في سعيها إلى تزوير الحقائق، في الرأي العام العالمي وخصوصا في الغرب، بدعوى الإرهاب أو بدعوى الدفاع عن النفس، في محاولتها تحويل الضحية إلى مجرم، واحتلال مكانة الضحية، كأن الصراع الفلسطيني بدأ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول؛ فحتى في أوساط يهود العالم، وضمنهم إسرائيل، ثمة قطاعات رفضت تلك الادعاءات وقطعها عن السياق العام الناجم عن طبيعة إسرائيل واحتلالها أراضي الفلسطينيين واعتدائها المتواصل عليهم بمختلف الأشكال؛ إذ تم إشهار شعار "ليس باسمنا"، في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وهذا تطور لافت وفي غاية الأهمية، بخاصة في هذه المرحلة، وفي الظرف الراهن، مع وصم إسرائيل بأنها نظام فصل عنصري من شخصيات يهودية مشهورة، مثل إيلان بابيه، وجدعون ليفي، وأبراهام بورغ، على سبيل المثال.
حتى توماس فريدمان، المعروف بانحيازه لإسرائيل، كتب في "نيويورك تايمز": "كل يوم لا تشرق فيه الشمس على غزة، ولا تتدفق فيه المياه، ولا تعمل فيه الكهرباء، وينتشر الجوع أو المرض على نطاق واسع، سـيكون خطأ كل إســـرائيلي وحتى كل يهودي في العالم. فهل إسرائيل مستعدة لتحمل هذا العبء؟".
خامسا، في الواقع، بات يتزايد في الغرب، وبين يهود العالم ويهود إسرائيل، شعور مفاده أن إسرائيل، بطبيعتها ونمط سياساتها إزاء الفلسطينيين، باتت عبئا أخلاقيا وسياسيا وأمنيا عليهم، وكخطر على المصالح الغربية، وعلى القيم التي يتبناها الغرب، وعلى مكانة الجماعات اليهودية، في وعيها لذاتها، ولعلاقتها بدولها ومجتمعاتها، في إطار عقدة أو إشكالية الهوية والولاء، وخاصة أن ثمة في الحكومة الإسرائيلية الحالية، وزير التراث عميحاي إلياهو الذي صرح أو هدد بضرب الفلسطينيين بقنبلة نووية، ووزير الدفاع يوآف غالانت الذي حاول نزع إنسانية الفلسطينيين واعتبارهم وحوشا، في حين أن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، دعا إلى محو حواره (قرب نابلس) بعد أن كان بعض قادة إسرائيل يتمنون لو تغرق غزة في البحر. أيضا ثمة وزير آخر، إيتمار بن غفير، الذي أكد أن تسكع عائلته في القدس أهم من تنقل الفلسطينيين في بلادهم.
كأن كل الألم والهول الذي يعيشه فلسطينيو غزة منذ شهر أيقظ الضمير العالمي، وأعاد فلسطين إلى مكانتها كقضية حرية وعدالة وكرامة، تختبر البشرية في قيمها وفي مستقبلها
وهذا جدعون ليفي، مثلا، يسخر من إسرائيل وادعاءاتها، فـ"الاحتلال الإسرائيلي أغرب احتلال؛ إذ يعتبر نفسه الضحية بل والضحية الوحيدة، ويطالب الذين يحتلهم بالحفاظ على أمنه... غولدا مائير كانت قالت إنها لن تسامح الفلسطينيين لأنهم اضطروا جيشها لقتل أطفالهم".
ويتابع ليفي: "لا يوجد صراع إسرائيلي فلسطيني، إنما احتلال يجب أن ينتهي، وهو من أكثر الأنظمة الطغيانية الوحشية على وجه الأرض... نظام فصل عنصري... الفلسطينيون يعيشون بلا أي حقوق".
وكان ليفي كتب في "هآرتس" في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "فكرنا أنه مسموح لنا أن نفعل أي شيء، وأننا لن نعاقب على ذلك أبدا... علينا الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين؛ ولكن علينا أيضا أن نبكي على غزة... غزة، التي معظم سكانها لاجئون خلقتهم أيدي إسرائيل؛ غزة التي لم تعرف يوما واحدا من الحرية".
كأن كل الألم والهول الذي يعيشه فلسطينيو غزة منذ شهر أيقظ الضمير العالمي، وأعاد فلسطين إلى مكانتها كقضية حرية وعدالة وكرامة، تختبر البشرية في قيمها وفي مستقبلها.