لا تزال آثار الهجوم الذي شنته "حماس" على إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي تؤجج نيران التوتر في سوريا. ويتبدى ذلك من خلال الهجمات المتفرقة بقذائف الهاون التي تنطلق من الأراضي السورية، مستهدفة مرتفعات الجولان المحتلة، مسببة ردود فعل انتقامية من جانب إسرائيل. وهي تتبدى أيضا من خلال استهداف القوات والمواقع الأميركية في سوريا على نحو متكرر بإطلاق النار عليها من الميليشيات المدعومة من إيران، ردا على دعم الرئيس جوزيف بايدن لإسرائيل في حربها ضد "حماس".
ويبدو أن روسيا، التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع كل من إسرائيل وإيران والحكومة السورية، لا تنخرط علانية في الجهود الدبلوماسية لتهدئة الوضع، وربما لم يكن ذلك مفاجئا تماما. وفي حين أن موسكو لا تعمل جاهدة على تصعيد الصراع بين إسرائيل و"حماس" ليتحول إلى حرب إقليمية، إلا أنها تبدو وكأنها المستفيد الرئيس من التصعيد في المنطقة، ومن بين المكاسب التي تجنيها مواصلة الضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من سوريا وإضعاف دعم أوكرانيا واهتمام العالم بها.
وخلافا للعقود السابقة التي كانت فيها الخطوط الأمامية مجمدة إلى حد كبير، عادت في الأسابيع الماضية الهجمات الصاروخية من جنوب سوريا باتجاه مرتفعات الجولان المحتلة إلى الظهور، ووقع آخرها ضمن سلسلة المناوشات عبر الحدود يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول، حين استهدفت قذيفتان صاروخيتان على الأقل إسرائيل انطلاقا من درعا. ولم تكتفِ تل أبيب في ردها على ذلك باستهداف مصادر الهجمات فحسب، بل تعدتها إلى مواقع أخرى في جميع أنحاء البلاد لتعطيل طرق إمداد الأسلحة الإيرانية إلى حلفاء إيران في سوريا أو عبرها.
تؤكد مصادر مطلعة أن موسكو لا تبذل جهودا حقيقية للتخفيف من سلسلة الهجمات المتزايدة عبر الأراضي السورية
وبموازاة ذلك، تعرضت القواعد الأميركية في سوريا والعراق لأكثر من 20 هجوما منذ 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأعلنت الميليشيات المدعومة من إيران والتي تعرّف نفسها باسم "المقاومة الإسلامية في العراق" مسؤوليتها عنها جميعا. وأدت هذه الهجمات إلى إصابة العشرات من الجنود الأميركيين، مما دفع القوات الأميركية للرد باستهداف منشآت للحرس الثوري الإيراني، شرقي سوريا.
وفيما تتصاعد المخاوف بشأن التداعيات الإقليمية للصراع المستمر بين إسرائيل و"حماس"، يبدو أن موسكو لا تبذل حقيقة جهودا دبلوماسية لنزع فتيل التوترات المتصاعدة، وإن فعلت فليس بالقدر الكافي. وتؤكد مصادر مطلعة أن موسكو لا تبذل جهودا حقيقية للتخفيف من سلسلة الهجمات المتزايدة عبر الأراضي السورية منذ 10 أكتوبر/تشرين الأول. ويتناقض ذلك مع دور موسكو كوسيط مفترض بين طهران وتل أبيب في سوريا، مثل نقل الرسائل الإسرائيلية إلى القيادة الإيرانية للمساعدة في احتواء الأعمال العدائية التي وقعت يومي 9 و10 مايو/أيار 2018.
وترى بعض المصادر، في توضيحها لهذه النقلة في السياسة الروسية، أن موسكو تفتقر إلى النفوذ أو التأثير الكافي على الأطراف المعنية لإقناعها بوقف التصعيد. وعلى العكس من ذلك، يسلط آخرون الضوء على أن روسيا، بغض النظر عن مدى نفوذها، ستستفيد من عواقب هذه التصعيدات، ولا سيما أن التصعيدات ليست في واقع الحال تهديدا مباشرا لموسكو. وقد صرح ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئاسة الروسية، مؤخرا، قائلا: "لا يوجد خطر في انجرار روسيا إلى الصراع".
بداية، تخدم الهجمات المتصاعدة على القوات الأميركية في سوريا هدف موسكو الطويل الأمد لطرد القوات الأميركية من المنطقة. وقد واجهت هذه القوات المتمركزة في سوريا، والتي يبلغ عددها حوالي 900 جندي، مضايقات مستمرة بالفعل من كل من روسيا والميليشيات المدعومة من إيران في السنوات الأخيرة. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى زيادة المخاطر التي تواجهها هذه القوات، وتعزيز مبررات انسحابها.
ومن شأن إخراج القوات الأميركية من سوريا أن يمهد الطريق أمام الحكومة السورية لاستعادة السيطرة على المنطقة الشمالية الشرقية الغنية بالموارد، ما يعود بالنفع المالي الكبير على روسيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن طرد القوات الأميركية من سوريا سيمثل انتصارا كبيرا على منافستها الرئيسة، الولايات المتحدة.
تأمل موسكو أن تؤدي إطالة أمد الصراع في غزة إلى استنزاف موارد خصومها، وبالتالي تقويض دعمهم لأوكرانيا
وكشفت وثائق سرية مسربة في وقت سابق من هذا العام عن إنشاء روسيا وإيران والحكومة السورية مركزا لتنسيق الجهود الرامية لإجبار العسكريين الأميركيين على الانسحاب من سوريا. ومع ذلك، فقد انخفض تواتر هذه الهجمات مؤخرا بسبب عوامل مختلفة، بما في ذلك المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وإيران بشأن الرهائن والتوصل إلى اتفاق نووي جديد. ومع ذلك، فقد أدى التصعيد الأخير إلى استئناف الضغط على القوات الأميركية حتى من دون المشاركة النشطة لروسيا.
وعلى نطاق أوسع، تأمل موسكو أن تؤدي إطالة أمد الصراع في غزة إلى استنزاف موارد خصومها، وبالتالي تقويض دعمهم لأوكرانيا، وهي تتطلع إلى أن يؤدي الوجود المتزايد للولايات المتحدة في المنطقة ودعمها العسكري المتزايد لإسرائيل إلى تحويل الموارد بعيدا عن أوكرانيا. وحتى إذا لم تقع تخفيضات رسمية في التمويل، فإن الطلب المتزايد على الأسلحة الأميركية قد يدفع واشنطن إلى إعطاء الأولوية لعمليات تسليم السلاح إلى تل أبيب بدلا من أوكرانيا أو تقسيم الإمدادات بين الجبهتين. وقد يؤدي هذا الوضع إلى تأخير شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، وهو ما يثير قلق كييف، التي بدأت الإمدادات إليها تنخفض بالفعل.
وفوق ذاك، تعتقد روسيا أن الصراع بين إسرائيل و"حماس" سيشغل بتداعياته صناع السياسات والجمهور الغربيين، فيصرف الانتباه عن الحرب الواقعة في أوكرانيا والفظائع التي ترتكبها روسيا هناك. وهي تحسب أن زيادة التوترات في أوروبا بشأن ردود الفعل على الحرب بين إسرائيل و"حماس"، وتصاعد المشاعر المناهضة للولايات المتحدة بسبب موقفها المؤيد لإسرائيل بشكل لا لبس فيه في جميع أنحاء الشرق الأوسط والجنوب العالمي، سوف يضران بالدبلوماسية الأميركية وصورتها، وهو ما تعتبره موسكو انتصارات إضافية.
وليس على روسيا- لتحقيق هذه المكاسب- سوى أن تجلس وتترقب سير الأحداث.