نتنياهو يترنح... فهل يسقط خلال الحرب؟

وفيما يتعدى الوضع الحزبي- السياسي، فإنه أقدم على إحداث تغييرات جدية في كل مناحي الحياة: التعليم، الصحافة، التدين في الحيز العام، مكانة المحاكم، الجامعات، الوضع الاقتصادي، الثقافة السياسية الشعبية، إلخ من إنجازات غيّرت إسرائيل وأدخلتها عصرا جديدا سوف يُكتب عنه تباعا.

وأتت الحرب في غزة وغلافها لتؤدي إلى تداعيات داخلية قد تغير من مكانة نتنياهو الشخصية، وهذا لا يعني أبدا أنّ طريقه ودربه إلى زوال، بل إن تراثه باق لسنوات طويلة حتى لو اختفى من المشهد السياسي؛ فبعد سنوات من "الاستيعاب المتبادل" بين "حماس" وإسرائيل التي يقودها بنيامين نتنياهو، أدى الهجوم الذي قامت به كتائب "القسام"، و"سرايا القدس"، وما حصل من نجاح عسكري تخللته عمليات قتل وخطف لمدنيين إسرائيليين وتجاوزات خطيرة اعتبرها نتنياهو، وكثير من المعلقين، استمرارا لـ"الهولوكوست" اليهودي، إلى شن نتنياهو حملة عسكرية تبدو الآن غير مسبوقة في أهوالها ومداها، ضد غزة وأهلها الذين يعتبرهم الأخير حاضنة "حماس"، وطبعا ضد حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، اللتين قامتا بتنفيذ الهجوم العسكري صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

على المدى البعيد، أي ما بعد انتهاء العمليات العسكرية، من المرجح أن تقام في إسرائيل لجنة تحقيق رسمية، وبالتأكيد سوف يكون لدور نتنياهو في الإخفاق العسكري ومهمة حماية المدنيين نصيب كبير في عملية التحقيق والتلخيصات، ونتنياهو يدرك ذلك، وعمليا بدأ في تحضير خط دفاعه عن نفسه، بهدف إعفائه من أية مسؤولية عما جرى، مما أدخله في دوامة بدأت تؤثر على اتزانه وبدأت تعصف بمكانته، وعمليا بدأ يترنح سياسيا قبل السقوط وانتهاء دوره السياسي في إسرائيل.

بدت الصدمة على وجه نتنياهو مع ورود التقارير الصحافية بعد هجوم "حماس" و"الجهاد الإسلامي" يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كما أنه قام بالمبادرة إلى إقامة "حكومة طوارئ" أو وحدة وطنية بإدخال بيني غانتس وحزبه إلى الحكومة، بالإضافة لحزب "إسرائيل بيتنا" بقيادة أفيغدور ليبرمان، حتى يكون له شركاء في متابعة الحرب وتحمل جزء من تبعاتها غير الواضحة تماما حتى الآن. ومع استمرار العمليات العسكرية وعملية القتل المتواصلة والطرد الممنهج لأهل غزة وتورط إسرائيل في ما يبدو أنه أكبر جرائم الحرب ضد غزة، منذ الحرب الأولى عليها عام 2008، كما استمرار احتجاز الرهائن الإسرائيليين وتوعد "حماس" و"الجهاد الإسلامي" للجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى استمرار إطلاق الصواريخ باتجاه المدن الإسرائيلية، مما ينذر بأن إسرائيل لن تستطيع استكمال مهمة الاجتياح البري للقطاع من غير ثمن إنساني واقتصادي كبير جدا، وربما لن تستطيع القضاء على "حماس" كما وعد نتنياهو الإسرائيليين وحلفاءه في الغرب، فإن كل ذلك ينذر بأن نتنياهو سوف يكون كذلك أمام أسئلة مهمة حول الحرب وأهدافها ومسارها بالإضافة إلى مسؤوليته عما سبقها.

كارثة موعودة؟

منذ اليوم الأول للمواجهة الحالية عبّر كثير من المعلقين الإسرائيليين عن عدم ثقتهم في قدرات نتنياهو على إدارة المعركة والخروج بإنجازات ملموسة. الصحافية في الصحيفة الاقتصادية الرائدة إسرائيليا "ذي ماركر"، ميراف أرلوزوروف، كتبت في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي بعد ثلاثة أيام من اجتياح "غلاف غزة": "رئيس الوزراء في طريقه لتشكيل لجنة تحقيق حكومية... وهو يحتاج إلى أفضل الأشخاص إلى جانبه لتقليل الضرر وإنقاذ حياته المهنية. ومع ذلك، فهو لا يزال يفضل الولاء على الكفاءة، ويعد بكارثة لنفسه ولنا". 
بعد ذلك بأيام معدودة (14 أكتوبر/تشرين الأول) كتب المعلق روغل الفر في جريدة "هآرتس": "كنا جميعا ساذجين. إن حجم الأزمة في الجيش الإسرائيلي هو نفسه حجم الأزمة في كفاءة نتنياهو. وعدم كفاءته لا تنعكس فقط في قراراته التي تقوض أمن الدولة، بل أيضا في رفضه التحدث مباشرة إلى الجمهور في المقابلات مع وسائل الإعلام الإسرائيلية. جزء من وظيفة رئيس الوزراء هو الظهور أمام الجمهور والإجابة على أسئلة الصحافيين في أوقات الأزمات الوطنية، لتقديم تفسيرات. إن رفضه القيام بذلك يعد حماقة. كما أن المقابلات التي أجراها في الخارج تسلط الضوء على عدم كفاءته، والاعتماد على كفاءته تبين أنه خطأ فادح".

ضغط الانتقادات لنتنياهو وكفاءته في إدارة المعركة ضد "حماس" وفي إدارة شؤون الدولة في حالة تصاعد مستمر، مما أدخله في حالة دفاع غير متزنة خلال الحرب وجلسات متابعتها واضطره للمبادرة إلى التنصل من المسؤولية عن الإخفاق في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وفي هذا السياق نشر نتنياهو بعد منتصف ليل الأحد 29 من الشهر نفسه، على منصات التواصل الاجتماعي الفقرة التالية: "خلافا للادعاءات الكاذبة: لم يتم تحذير رئيس الوزراء نتنياهو تحت أي ظرف من الظروف وفي أي مرحلة من نوايا الحرب من جانب حماس. بل على العكس من ذلك، قدّر جميع المسؤولين الأمنيين، بمن فيهم رئيس مجلس الأمن ورئيس الشاباك، أن حماس ارتدت ولجأت إلى التسوية. هذا هو التقييم الذي تم تقديمه مرارا وتكرارا إلى رئيس الوزراء ومجلس الوزراء من قبل جميع القوى الأمنية وأجهزة الاستخبارات، بما في ذلك حتى اندلاع الحرب".

مرة أخرى يحاول نتنياهو تجنيب نفسه المسؤولية عن دوره في الإخفاق الإسرائيلي، مما أدى إلى فورة من الغضب في الإعلام ولدى شركائه في الحكومة، كان أكثرها تأثيرا ما قاله شريكه في حكومة الطوارئ، بيني غانتس في تغريدة على منصة "إكس"، غداة اليوم نفسه، قال فيها: "على رئيس الوزراء أن يتراجع عن تصريحه. وفي هذا الصباح على وجه الخصوص، أود أن أدعم وأعزز جميع قوات الأمن وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي بما في ذلك رئيس الأركان ورئيس جيش الدفاع الإسرائيلي ورئيس الشاباك. عندما نكون في حالة حرب، فإن القيادة يجب أن تظهر المسؤولية، وتقرر القيام بالأشياء الصحيحة ودعم القوات بطريقة تمكنهم من تحقيق ما نطلبه منهم. أي عمل أو بيان آخر يضر بقدرة الشعب على الصمود وقوته". 
وترافق موقف غانتس مع وابل من الانتقادات، وتقريبا من كل الاتجاهات الرسمية والشعبية والصحافية مما أجبر نتنياهو على الاعتذار عن تصريحه السابق وتأكيده في تغريده على منصة "إكس" قبل ظهر الأحد: "لقد أخطأت، ما قلته بعد المؤتمر الصحافي لم يكن ينبغي أن يقال وأعتذر عن ذلك. وأعطي الدعم الكامل لجميع رؤساء الأذرع الأمنية. أقوم بتعزيز رئيس الأركان وقادة وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي الموجودين على الجبهة ويقاتلون من أجل إسرائيل. معا سوف ننتصر".

إبعاد فوري

تصريحات وتراجعات نتنياهو تؤكد بحسب كثير من المراقبين الإسرائيليين أنه غير صالح وغير ملائم لإدارة أمور الدولة عموما، والمعركة ضد "حماس" بشكل خاص. وقد عبرت عن ذلك صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول بالقول: "إن الموقف الذي نشره رئيس الوزراء على شبكات التواصل الاجتماعي عند الساعة الواحدة من ليل السبت، والذي اتهم فيه– في خضم الحرب– رؤساء الأجهزة الأمنية بالفشل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، يتطلب إبعاده فورا من رأس السلطة. بعد هذا المنشور، وبالرغم من أنه حذفه في صباح اليوم التالي واعتذر شفهيا وعلنيا، يجب على كل مواطن في إسرائيل ورئيس الدولة وأعضاء الكنيست وأعضاء الحكومة ورؤساء المؤسسة الأمنية أن يدركوا مرة واحدة وإلى الأبد: إن استمرار نتنياهو في منصب رئيس الوزراء في هذه الساعة المصيرية هو إلى حد ما مغامرة بمستقبل إسرائيل".
يترافق هذا الضغط مع ارتفاع جدي في استطلاعات الرأي في نسب عدم الثقة الشعبية بقيادة نتنياهو وحتى في تأييد حزبه "الليكود" الذي تهاوى تأييده إلى نحو 19-20 مقعدا لو أجريت الانتخابات الآن مقابل 31 مقعدا حصل عليها في الانتخابات الأخيرة.

وقد يقول قائل إن نتنياهو استطاع في الماضي الإفلات من كل مطباته وإخفاقاته والعودة إلى الحكم، لكن التقدير أن هذه المرة المسألة مختلفة جذريا، إذ إننا أمام إخفاق عسكري واستخباراتي غير مسبوق في التاريخ الإسرائيلي. وما يزيد الطين بلة هو الثمن الإنساني المدني في صفوف الإسرائيليين وهو كذلك غير مسبوق، كما الأثمان الاقتصادية والاجتماعية، واستمرار الحرب من دون أفق سياسي محدد أو هدف واضح، بالإضافة إلى مسألة المخطوفين، والتي قد تتدحرج إلى اضطرار إسرائيل للإفراج عن السجناء الأمنيين الفلسطينيين والعرب، وهذا سيسجل كإخفاق آخر لنتنياهو. 
باختصار، هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، وما يلوح في الأفق هو نهاية الدور السياسي لنتنياهو، بالرغم من أن ذلك لا يعني اختفاء إرثه، فذلك يحتاج إلى الانتظار سنوات ليتحقق وهو لا يزال سابقا لأوانه.