"مترو غزة"... شريان حياة أم مقبرة المدنيين؟https://www.majalla.com/node/303726/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D8%AA%D8%B1%D9%88-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D9%82%D8%A8%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86%D8%9F
خلال السنوات الأخيرة الماضية، ذاع صيت الأنفاق في قطاع غزة، بعدما استخدمته الفصائل الفلسطينية في عملياتها ضد إسرائيل بما في ذلك إطلاق الصواريخ على الداخل الإسرائيلي. كما استخدمت هذه الأنفاق للتنقل بين منطقة وأخرى حتى أطلقت عليها الصحافة الإسرائيلية اسم "مترو الأنفاق" أو "غزة السفلى"، لكثرة عددها وامتدادها مئات الكيلومترات تحت الأرض وعلى عمق يتجاوز 25 مترا.
لكن الهدف من حفرها لم يكن عسكريا فحسب؛ إذ استخدمت هذه الأنفاق خلال الحصار الإسرائيلي على القطاع منذ العام 2007، عندما حفر الفلسطينيون أكثر من ألف نفق على الحدود الجنوبية للقطاع مع مصر.
وكان الحصار على سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليون و400 ألف شخص قد اشتد في العام 2007، ففقدوا المقومات الأساسية للحياة كالمواد الغذائية والاستهلاكية والوقود والمنظفات والأخشاب والمعدات ومواد البناء وقطع غيار السيارات، وذلك بسبب إغلاق المعابر الستة بين القطاع وإسرائيل، ومنع دخول أي من البضائع حتى الخضراوات والفواكه والمياه. واضطر الغزيون على أثر ذلك لحفر أنفاق سرا بين المنازل الحدودية في رفح، الفلسطينية والمصرية، بهدف كسر الحصار الإسرائيلي.
وكانت مدينة رفح قد قسمت إلى شقين، فلسطيني ومصري، بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وذلك على طول محور صلاح الدين. وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، أصبح محور صلاح الدين تحت سيطرة السلطة الفلسطينية حتى عام 2007 عندما سيطرت حركة "حماس" على الحكم في القطاع، وعلى الأثر أغلقت مصر وإسرائيل الحدود مع القطاع.
مع مرور الوقت ازداد عدد الأنفاق وأصبحت عمليات التهريب من مصر تشمل كل الاحتياجات بأسعار زهيدة
يقول أحد الذين كانوا يعملون في حفر الأنفاق بين غزة ومصر، والذي رفض الكشف عن هويته، لـ"المجلة": "كنا نبدأ بحفر الأنفاق من المنازل الحدودية في رفح، بعد أن يتم الاتفاق على وجهتها في الطرف الثاني للحدود مع أصحاب المنازل التي يكون لها نسبة من تهريب البضائع". كانت الأنفاق في تلك الفترة بدائية بسيطة، لا يتجاوز قطرها المتر الواحد وبعمق 15 مترا، ولا يزيد طول بعضها عن 100 متر، لإدخال المواد الغذائية الأساسية والوقود.
لكن مع مرور الوقت تطورت الأنفاق وازداد عددها، وأصبحت عمليات التهريب تشمل كل الاحتياجات حتى الملابس وإطارات السيارات ومواد البناء والأخشاب والسيارات، وبأسعار زهيدة مقارنة بالبضائع الإسرائيلية التي كانت تصل عن طريق المعابر الإسرائيلية، بحسب عامل الأنفاق.
ولاقت عمليات حفر الأنفاق في تلك المرحلة تأييدا من الغزيين، إذ أصبحوا يوفرون احتياجاتهم عبرها. ويقول شكري كراجة (41 عاما) وهو من وسط قطاع غزة، أن الأنفاق مع مصر مكنته من توفير الاحتياجات الأساسية لأطفاله وخصوصا الحليب لابنه الرضيع، بالإضافة إلى أنها منعت المجاعة والانهيار الاجتماعي والاقتصادي الذي كان مقبلا على قطاع غزة.
لم توفر أنفاق تهريب البضائع مع مصر الاحتياجات الأساسية وحسب، بل حركت أيضا الأسواق وأعادت العشرات من العمال وأصحاب المهن إلى ممارسة عملهم. ويقول سالم صُبح (56 عاما) الذي كان يمتلك سوبر ماركت لبيع المواد الغذائية الأساسية: "مع اشتداد الحصار اختفت البضائع من طحين وسكر ومعلبات وحتى حليب للأطفال، واضطررت لإغلاق المحل وتوقف مصدر دخلي الوحيد، لكن بعد حفر الأنفاق والبدء في تهريب البضائع عدت إلى العمل لكسب الرزق وإعالة أسرتي".
مثل صُبح المئات من التجار وأصحاب المصالح الاقتصادية الذين استأنفوا أعمالهم بعد توفر البضائع. وحتى حركة البناء دارت عجلتها من جديد، ليعود المئات وربما الآلاف من العمال إلى أعمالهم وإن لم يكن بالوتيرة الاعتيادية ولكن ذلك كان أفضل من فقدان العمل ومصدر الدخل تماما، وخصوصا فئة العمال الذين يعملون بمقابل يومي، وهم الفئة الأكثر فقرا وهشاشة في المجتمع الغزي.
تطورت أنفاق الفصائل حتى أصبح معظمها مبنيا من الخرسانة المتينة، كما يستطيع المقاتلون التنقل داخل بعضها بالدراجات النارية
وبسبب إغلاق معبر رفح البري، المعبر الوحيد بين مصر وغزة وقتذاك، اضطر كثير من الغزيين للمرور عبر الأنفاق للالتفاف على إغلاق المعبر المذكور، بعد أن تقطعت بهم السُبل ولم يتمكنوا من العودة إلى عائلاتهم ومنازلهم. محسن عجور (36 عاما)، كان قبل فرض الحصار على القطاع وإغلاق معبر رفح يتابع سنته الأخيرة لدراسة الطب في مصر، وبعد تخرجه كان المعبر قد أغلق واضطر للمكوث هناك أشهرا عدة قبل أن يتمكن من العودة عن طريق الأنفاق، وبعدما تحسنت أوضاع المعبر قليلا عاد مرة أخرى عبر الأنفاق ثم دخل عبر المعبر ليختم جواز سفره ويكون وجوده قانونيا.
ساهمت الأنفاق، التي ساعدت الطبيعة الجغرافية في المنطقة الحدودية على حفرها على طول 12 كيلومترا، في كسر الحصار الإسرائيلي حتى منتصف العام 2013 عندما قررت مصر إغلاقها من خلال إغراقها بالمياه وجرف منازل المصريين داخل حدودها وتحديد منطقة أمنية عازلة تُقدر بـ1500 متر، وذلك إثر تحسن العلاقات بين "حماس" والحكومة المصرية، ما أدى إلى تحسين العمل على معبر رفح عاما بعد عام سواء لمرور الأفراد أو إدخال البضائع عبر بوابة صلاح الدين.
غزة السُفلى
بعد أن تمكنت مصر من تدمير عشرات الأنفاق التي كانت تُعتبر شريان حياة لغزة وبوابتها الوحيدة على العالم واستؤنف العمل تدريجيا على المعبر التجاري، بقيت حينذاك بعض الأنفاق السرية التي يعتقد أنها لعمليات تهريب الأسلحة. وركزت الفصائل الفلسطينية في القطاع، وبالتحديد أجنحتها العسكرية، على حفر شبكات أنفاق تحت غزة، وبعمق يتجاوز 30 مترا. وكان رئيس "حماس" في القطاع يحيى السنوار ذكر في العام 2021 أن هناك 310 أميال من الأنفاق في غزة.
تطورت أنفاق الفصائل حتى أصبح معظمها مبنيا من الخرسانة المتينة، كما يستطيع المقاتلون التنقل داخل بعضها بالدراجات النارية، وهو ما ذكره الجيش الإسرائيلي أكثر من مرة عندما اكتشف العشرات من فتحات الأنفاق المؤدية إلى داخل إسرائيل خلف الجدار العازل مع قطاع غزة. كما أبدى قادة الجيش الإسرائيلي أكثر من مرة تخوفهم من تلك الأنفاق التي تمنح المقاتلين الفلسطينيين أفضلية في الحركة في أوقات الاجتياحات البرية للقطاع.
بعض الغزيين يرفض الحديث عن "غزة السفلى" لأن ذلك قد يضر بهم وقد يعتبرهم البعض مستسلمين
وكان قادة كتائب "القسام" الجناح العسكري لـ"حماس"، قد أبدوا استعدادهم للمعركة البرية منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقال الناطق باسم هذه الكتائب والمشهور بلقب "أبو عبيدة"، إنهم أعدوا أنفسهم جيدا، وينتظرون اللحظة التي يدخل فيها الجيش الإسرائيلي إلى القطاع. ونشرت "القسام" عددا من مقاطع الفيديو تظهر استخدام مقاتليها للأنفاق لاستهداف آليات عسكرية وجنود إسرائيليين خلال الاجتياح البري الإسرائيلي، بينما كان الجنود الإسرائيليون أعربوا عن خوفهم وعدم رغبتهم في دخول الأنفاق لملاحقة المقاتلين الفلسطينيين.
وتؤيد الغالبية العظمى من سكان غزة والبالغ تعدادهم نحو مليونين و300 ألف شخص، بحسب آخر إحصاء صادر عن "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني"، عمل الفصائل الفلسطينية في مواجهة الجيش الإسرائيلي بالطرق المتاحة كلها. ويقول أحمد خالد (42 عاما)، وهو أحد النازحين من شرق مدينة غزة إلى جنوب القطاع: "بعد سنوات من التهجير والاحتلال والقتل والدمار، من حقنا كفلسطينيين مقاومة الاحتلال، ومن حق المقاومة أن تحفر الأرض وتتحصن وتعد نفسها لمواجهة الجيش الإسرائيلي".
ويتفق مواطنون آخرون من قطاع غزة مع خالد، لكن معظمهم رفض الكشف عن هويته تحسبا لأي ضرر قد يلحق بهم أو بعائلاتهم خلال الحرب الدائرة، بيد أنهم أعربوا عن تأييدهم لحفر الأنفاق سواء لكسر الحصار كما في السابق، أو مواجهة الجيش الإسرائيلي أو حتى مهاجمته داخل الأراضي المحتلة عام 1948، بحسب قولهم.
وفي السياق عينه، فإن بعض الغزيين- معظمهم فقد منزله أو بعضا من عائلته خلال الحرب الحالية- يرفض الحديث عن "غزة السفلى"، معتبرين أن الحديث عنها يضر بهم، وقد يعتبرهم البعض مستسلمين أو ربما يصل الأمر إلى حد اتهامهم بالخيانة والتساوق مع الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن الفصائل الفلسطينية تعمل على تدمير القطاع بمواجهتها للجيش الإسرائيلي والتحكم بمفاصل الحياة اليومية للفلسطينيين.