أن تفكّر، هو أن تقول لا

أن تفكّر، هو أن تقول لا

العنوان أعلاه هو عنوان كتاب (Derrida, J, Penser, c’est dire non, Seuil, juin 2022)، وقد نشر السنة الماضية، أي 18 سنة بعد وفاة جاك دريدا، وهو عبارة عن درس كان المفكّر الفرنسي قد ألقاه في جامعة السوربون خلال السنة الدراسية 61-1960 حيث كان يعمل مساعدا خلال أربع سنوات في مادة الفلسفة العامّة والمنطق تحت إمرة الأساتذة: جورج كانغيليم، وسوزان باشلار، وجان فال، وبول ريكور. ورغم أن دريدا لم يكن يعمل وقتئذ سوى مجرد مساعد، فقد تُرك له اختيار موضوعات بحثه وأعماله التوجيهية، على عكس ما سيتم ابتداء من 1964، حينما سيلتحق بزنقة أولم، حيث سيخضع لمقرّرات التبريز في الفلسفة.

خصّص دريدا أربع حصص للتّعليق على عبارة للفيلسوف آلان (1868-1951):"أن تفكّر هو أن تقول لا". يمكن أن نقول إننا هنا بصدد تفكيكمقولة آلان، قبل بلورة استراتيجية التّفكيك ذاتها، وإنّنا أمام محاولة لإبراز التوتّر الذي يعمل في هذه العبارة من أجل الوقوف على مقاصد آلان وحدوده بهدف تخطّيها.

ليس الثّنائي نعم/ لا الذي يكوّن قطبي هذه العبارة مجرّد زوج عادي، بل إنّه يقدَّم هنا من حيث إنّه السؤال الأساس الذي يصدر عنه فعل التّفكير. وبالفعل، يبدأ دريدا درسه بالإشارة إلى أنّ هناك طريقتين لطرح السؤال: ما هو الفكر؟ الطّريقة الأولى هي الطريقة التّقليدية، الماهوية، أي التي تتساءل عمّا هو الشيء، والتي بمقتضاها يغدو السّؤال في هذا الصدد: ما هو الوجود الحقّ للفكر الذي يتخفّى خلف مختلف أفعاله؟ هل هناك أفعال بعينها لا تتمتّع بعلاقة ممتازة مع الفكر، وهل من بينها أفعال تكشف حقيقة الفكر أكثر مما تكشفها الأخرى، أعني الأفعالالأصليةللفكر؟ المنحى الآخر هو منحى لا يتقصّى الماهيات والأصول، وإنّما يقف عند الظّواهر بحيث يغدو الفكر هو مجموع تلك الظّواهر، مجموع تجلّيها وظهورها، وما دام الفكر في هذه الحال هو ما يعمل، فإنّه سيغدو مجموع أفعاله.

السّؤال المنطلق عند آلان إذن هو ما هو الفكر؟ وجوابه أنّ ما يحرّك الفكر هو تماسكه وانسجامه مع العالم، ذلك الانسجام الذي لا يتحقّق إلا عندما يأخذ الفكر طريقه نحو الحقيقة. إلا أنّ بلوغ هذه الحقيقة لا يتمّ إلا عبر طريق ينفي فيها الفكر ذاته من خلال لاءاته. الفكر إذن نفي وقدرة على قول لا.

ما يحرّك الفكر هو تماسكه وانسجامه مع العالم، ذلك الانسجام الذي لا يتحقّق إلا عندما يأخذ الفكر طريقه نحو الحقيقة. إلا أنّ بلوغ هذه الحقيقة لا يتمّ إلا عبر طريق ينفي فيها الفكر ذاته من خلال لاءاته. الفكر إذن نفي وقدرة على قول لا

ينهج دريدا في هذا الدّرس خطوات ثلاث: في المرحلة الأولى يتابع آلان في قوله: إنّ كل فكر هو ضمير وواجب أخلاقي إزاء الحقيقة، وهو رفض للخداعات والمظاهر.

وفي الثّانية يحاول أن يتجاوز عبارة آلان فيثبت عدم التعدّي، أو عدم حاجة اللاّ إلى أن تتجاوز ذاتها وتتخطّاها نحو موضوع خارجي، لتغدو هي ما يشكل صورة ذلك الضّمير وبنيته. إذ ليس هناك موضوع تنصبّ عليه اللاّ. فعندما يتساءل دريدا: لمن تُوجّه هذه اللاّ؟ لأيّ موضوع تُوجَّه؟ يجيب: اللاّ موجَّهة قبل شيء إلى الذّات. إنّ الفكر لا يُوجِّه اللاّ إلى موضوع، وإنّما يوجِّهها إلى ذاته لكونه انخدَع في البداية وقال نعم للمظاهر، من ثمّة فالنّفي هو نفي للذّات. . «nier» est d'abord et avant tout « senier »فقبل أن يتوجّه الفكر نحو آخر، ينبغي عليه أن يتوجّه للخصم الذي يسكنه فيدفعه إلى أن يؤمن بالمظاهر من غير فحص ولا تمحيص.

يتوجّب إذن نقد الاعتقاد بصفة عامة. وسيبدأ دريدا بنقد اعتقاد آلان نفسه وإيمانه بفلسفة إرادية للحريّة والحكم. إذ إنّنا بمجرّد أن نقول "نعم" نكفّ عن التّفكير كي نلج مجال الاعتقاد. هنا تغدو للشكّ قيمة في ذاته، ويصبح هو قدَر الفكر وخلاصَه، بل وسيلته وأداته. بهذا الصّدد ينعت دريدا آلان بأنّه ديكارتي النّزعة، بل بأنّه أكثر ديكارتية من ديكارت. غير أنّه سرعان ما يردّ عليه بالتّنبيه إلى أنّ الفكر، لكي يقول لا، ينبغي عليه أن يرغب في ذلك، وهذه الإرادة تتولّد عن إثبات وليس عن نفي، إثبات يقول نعم للقيمة ولإرادة الحقيقة. ينبغي إذا الانطلاق من اعتقاد، من إيمان بإرادة الحقيقة. بعبارة أخرى، فإنّ الفكر، لكي يتأكّد من كونه فكرا، لكي يتأكّد من نفسه، عليه أن يقول لها نعم قبل أن يقول لا.

وعلى رغم ذلك، فإنّ من سيُعرف فيما بعد بصاحب التفكيك، يثبت في هذا الكتيّب أنّه حتى وإن كانت النّعَم تتقدم اللاّ، فإنّ هناك على الأقلّ نفيا ممكنا قبل الحكم وقبل اللّغة. وهو يوافق هنا على الاعتراض الذي كان سارتر واجه به هوسرل في منتصف الثّلاثينيات من القرن الماضي في كتيّب تعالي الأنا. بل إنّ المفكر الفرنسي سيدفع بهذا الاعتراض حتى الإشارة إلى هايدغر، وإلى حديثه عن الاختلاف الأنتيكو- أنطولوجي، الاختلاف بين الموجود والوجود الذي يمكّننا من أن نفهم ما يعنيه آلان عندما يقول إنّ الفكر هو قول لا"

يرى دريدا في قولة آلان مناسبة لإبراز زوج يتخطىّ اختلافُه اختلافَ مجرّد ثنائي، وأنّ الزّوج نعم/ لا ليس مجرّد ثنائي يصف خطاب الحقيقة، وإنّما هو زوج يتعدّى ذلك. فاللاّ ليست هي المقابل للنّعم. هذان اللّفظان أقرب إلى زوج آخر سيوليه دريدا اهتماما كبيرا عشرة أعوام فيما بعد، هو الزّوج حياة/موت حيث سيسعى أن يبيّن المنطق الذي يخضع له وفق آلية الاختلاف والمباينة، تلك الكلمة التي سيكتبها صاحب التّفكيك بصورة تختلف عن القاعدة وعن المعهود Différance، والتي سيحملها لا معنى التباعد والبون والاختلاف والمسافة فحسب، وإنما معنى الجرّ والمصالحة وتفكيك الثنائيات، بما فيها ثنائية الإثبات والنفي، والنعم واللا: "وبين نعم ولا  تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها" كما كتب الشيخ.

font change