في غزّة... تفتت اجتماعي وعزلة إجبارية عن العالمhttps://www.majalla.com/node/303711/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D9%91%D8%A9-%D8%AA%D9%81%D8%AA%D8%AA-%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%88%D8%B9%D8%B2%D9%84%D8%A9-%D8%A5%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85
غزة: بعد انتشار البلاغ العسكري الإسرائيلي في غزة، في اليوم السابع من الحرب، مجبرا سكان شمال القطاع ووسطه، على التوجه إلى المناطق الجنوبية منه، انتشرت حالة من الفوضى داخل القطاع، إذ أن الكثير من السكان رفضوا مغادرة منازلهم، وغادر من شعر بخطورة تواجده داخل منزله، خاصة من يقيمون في المناطق الحدودية شمال القطاع، والذين سبق وأن تعرضوا لويلات القصف والتدمير بفعل الطائرات والدبابات والمدفعية الإسرائيلية في حروب سابقة.
تفرقت العائلات، وأصبح الأب يقيم، في بعض الأحيان، في مدينة، والأولاد والأم في مدينة أخرى، والأغرب أن هناك عائلات غزية، قامت بتوزيع أفراد العائلة في أماكن مختلفة، بعد اشتداد القصف، لضمان استمرار النسل، وألا تفنى العائلة دفعة واحدة.
وسيلة للتواصل
ومنذ ذلك الحين أصبحت وسيلة التواصل الوحيدة بين أولئك جميعا، شبكات الاتصالات الخلوية الفلسطينية، وشبكة الإنترنت، واللتين أصابهما الضعف، بفعل قصف الاحتلال لمركز الاتصالات الفلسطينية في مدينة غزة، رابع أيام الحرب.
هذا العزل الإجباري يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على سكان قطاع غزة، في ظل قمة الثورة التكنولوجية في العصر الحديث، وفي وقت أصبح فيه العالم يقلص المسافات بين الأفراد والجغرافيا، وبين الثقافات المختلفة، يعيد الاحتلال الإسرائيلي غزة إلى حجرة مغلقة
يصعب التعامل مع وطأة القلق في أجواء الحرب، والقصف العنيف الذي تتعرّض له البيوت على مدار الساعة. وبعد الإجبار على التفتت الاجتماعي، وفقدان لم الشمل العائلي، صارت المكالمات اليومية، والرسائل الهاتفية، طريقة يتبعها السكان للوصول لذويهم في الغربة المجحفة التي طاولت المعظم من سكان غزة. هذه الغربة داخل الأرض، تجرعها الجميع هنا، واتبعوا طرق التواصل من بعد، بهدف الاطمئنان، وطرد الخيالات السوداوية حول مصير أحبتهم.
وفي يوم السابع والعشرين من أكتوبر، فوجئ جميع سكان قطاع غزة بغياب إشارة الشبكة الخلوية جوال وأوريدو، وهما الشبكتان الوحيدتان العاملتان في قطاع غزة. وبعدها بقليل شاع خبر انقطاع الإنترنت عن جميع مدن وأحياء القطاع.
في هذا أراد الاحتلال قطع التواصل بشكل تام بين سكان القطاع، بل وعزل القطاع بأكمله، كمنطقة جغرافية تخضع للحرب الشرسة، محكما فاصلا حدوديا وتواصليا بينه وبين العالم.
هذا العزل الإجباري يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على سكان قطاع غزة، في ظل قمة الثورة التكنولوجية في العصر الحديث، وفي وقت أصبح فيه العالم يقلص المسافات بين الأفراد والجغرافيا، وبين الثقافات المختلفة، يعيد الاحتلال الإسرائيلي غزة إلى حجرة مغلقة، قاطعا عنها الماء والكهرباء والوقود، ولا يتوانى عن توجيه ضرباته العسكرية بالطائرات والمدفعية والدبابات، هادما المنازل فوق رؤوس السكان المدنيين العزّل، دون أي وازع إنساني، أو التفات للقوانين الدولية، متجاهلا بأن كل ما يقوم به، يندرج تحت قائمة جرائم الحرب الكارثية.
سردية فلسطينية
لحظات عصيبة عشناها ونعيشها هنا في القطاع، بسبب انقطاع الاتصالات الداخلية في ما بيننا، كما أن الإنترنت كان أداة التواصل الوحيدة بين الأهل والأصدقاء داخل القطاع وخارجه، وكان يمدنا بطريقة للتدوين والكتابة على صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، لإيصال المشهد حول الحرب ويومياتها، وبلغات مختلفة، على أمل تغيير الموقف الدولي الفاتر، والذي لم يحرك ساكنا، في سبيل إيقاف قتل المدنيين في غزة، ومنع استمرار الحرب ضد الإنسانية.
المشاعر التي تسبّب بها انقطاع الإنترنت كانت غريبة، لحظات لم يعشها من قبل سكان القطاع، ولربما لم يضطر أحد من سكان كوكب الأرض بأكمله إلى عيشها. مشاعر حملت فكرة الحجز والتغريب بين الجدران، مع البقاء في ظلام دامس، وكأن عيوننا محيت، بل وحواسنا، من قبل احتلال لا يرى إلا بعين واحدة، إنها عين البطش والتنكيل بالمدنيين الضعفاء.
لطالما اعتاد الاحتلال على صنع الحواجز في حياة الفلسطينيين، ففي قطاع غزة كان حاجز أبو هولي حتى عام 2005، يقسم حياة الإنسان الفلسطيني، يحجزه ويعذبه، ويوقف حياته حسبما يتطلب المزاج. والكثير من الضحايا الفلسطينيين سقطوا على هذا الحاجز، بحجة إزعاج الجنود المرفهين على الحاجز.
وفي الضفة الغربية والقدس، تبقى فكرة الحواجز، المنغص الأساسي ليوميات الفلسطيني هناك، والخطر الحقيقي على حياة الإنسان، فالقوات الإسرائيلية القابعة عند الحواجز تعطّل سير الحياة الاجتماعية، وإمكانية التنقل بين المدن، ناهيك عن المستوطنات القابعة كأفعى، على امتداد الضفة الغربية، ومن أبرزها حاجز حوارة في نابلس، وحاجز قلنديا بين رام الله والقدس.
لكن حاجز قطع الإنترنت على غزة صنع كتلة من النار حول الجسد الفلسطيني، فلا خبر يخرج من هذه الأرض المحترقة، لينقل الحقيقة، ولا كلمة حب أو تضامن، تصل من الخارج.
تضامن
كان صوت التضامن الذي يأتي من الخارج، عبر رسائل المسنجر، والمنشورات الداعمة للقضية الفلسطينية والحق في العدالة، يمثل بارقة أمل للعائلات النازحة هنا، والتي تمضي يومها الطويل، في ظل حياة متوقفة تماما، فدويّ القصف كان يهون بفعل كلمة ضفاوي أو مقدسي أو مشاعر أشقاء الداخل المحتل، أو نبض مواطن من الدول العربية أو من العالم، يدعم الفلسطيني بالدعاء لا أكثر، هذه النبرة الطرية التي تبعث الألفة لدى إنسان يجلس منتظرا دوره على المقصلة.
وقد أدى القطع المتواتر للإنترنت والاتصالات، إلى تعميق شعور العزلة لدى كل فلسطيني، مما مثّل نارا تضاف إلى النار الموجودة بالأصل، كأن تغلق الكوة الوحيدة التي يتسرب منها نور الشمس في زنزانة السجين المظلمة.
ماذا كان يحدث؟
يأتي انقطاع الإنترنت والاتصالات وسط ظلام دامس يعيشه القطاع بأكمله، ترى البيوت اشباحا راقدة، وتشعر بأن الطائرات في السماء، جاءت لتلتهمك وحدك، وسط جميع أدوات الرعب التي تستخدمها إسرائيل، مكثفة قصف منازل الناس الآمنين بأسلحة جديدة، تحدث أصواتا غير معهودة، خلال هذه الحرب أو الحروب السابقة. صوت يزلزل الجسد ويبث الرعب والشعور باقتراب النهاية، إرهاب كان سيبدو مقززا، لو أنه تجسد حتى في سينما هوليوود، لكن إسرائيل صنعته ضد الفلسطينيين على أرض الواقع.
أدى القطع المتواتر للإنترنت والاتصالات، إلى تعميق شعور العزلة لدى كل فلسطيني، مما مثّل نارا تضاف إلى النار الموجودة بالأصل، كأن تغلق الكوة الوحيدة التي يتسرب منها نور الشمس في زنزانة السجين المظلمة
يتواصل القصف ويشتدّ في شمال غزة وغربها، ووسطها وجنوبها، في كل مكان، نسمع دوي الانفجارات المزلزلة، نحاول تحديد اتجاهها، ونسمع عبر محطات "الإف إم" على تطبيق الراديو عبر الهاتف النقال، أصوات مراسلي الفضائيات العاملة في غزة، ولأن لكل شخص منا هنا أقرباء وأهل وأصدقاء، موزعين في القطاع، نعيش جميعا لحظات من الهلع حين نسمع أن بيتا قصف في منطقة ما، لأننا لا نستطيع معرفة من هم الضحايا، ولا نستطيع التواصل، من أجل الاطمئنان.
لحظات تضعنا أمام احتمال موت الجميع، فكل شخص أعرفه تخيلته ميتا، بفعل سياسة الحرق الجماعي للسكان، والعزل الإجباري داخليا وخارجيا.
اشتداد الرعب
خلال انقطاع الإنترنت، لا يبقى سوى مشاعر البؤس والحسرة، فالبيوت تقصف فوتهدم فوق رؤوس ساكنيها في عمق الظلام، وأماكن القصف مجهولة تعجز عن تحديدها حتى سيارات الإسعاف والدفاع المدني. وبينما كان القصف شرق مدينة رفح، قريبا من منزل النزوح الذي استأجرته، رأيت أناسا يحملون أبناءهم الضحايا ما بين قتلى ومصابين، ملطخين بالدماء، مبتوري الأعضاء، يحملونهم بكل الرهبة الممكنة، صارخين، باكين، ويهرعون بهم إلى مشفى المدينة، مدفوعين ببارقة أمل في إنقاذهم من الموت. ومما يزيد الرعب أن البارجات الحربية الإسرائيلية كثفت نيرانها من بحر غزة، على بيوت المواطنين، غرب المدينة ووسطها، مستهدفة كل شيء وكل بيت بالمزيد من القذائف العمياء والعشوائية.
هذه العزلة التكنولوجية الإجبارية، ستترك أثرا فادحا وبعيد المدى في نفوس الفلسطينيين، وستؤسس لعلاقة جديدة بين الناس هنا والعالم. فالوحشة التي انتابت المشاعر، والحسرة، بالإضافة إلى الترويع والقتل الذي لا يتوقف على مدار الساعة خلال الحرب، فاقمت مشاعر الغزيين بالنبذ، والخروج الفعلي من العالم.
هذه السادية التي تنفذ قوات الاحتلال من خلالها عمليتها العسكرية، وأدوات التطهير العرقي، تورط العالم في برمته في أسئلة أخلاقية حرجة، فلم تعد هناك ثقة بكل ما جاءت به الحضارة الغربية من قيم تتمحور حول حرية الإنسان، وترفع من قيمته الوجودية، وتدعو إلى المساواة بين البشر، فالاحتلال هنا فعل كل ما يتعارض مع تلك القيم، بقطعه الماء والكهرباء والوقود والاتصالات، وهو ما لم تشهده أيّ حروب أخرى في عصر الثورة التكنولوجية التي أصبحت فيها الحضارة الإنسانية، مجرد كلمات منمقة وسط هذا هذا العبث المستمر.