وفي حين ليس من المتوقع أن يدخل "قتلة زهور القمر" قائمة الخمسة الأنجح لسكورسيزي، فلا بدّ من ملاحظة أن أربعة من هذه الأفلام كانت من بطولة ليوناردو دي كابريو (باستثناء "كايب فير")، بذلك يكون دي كابريو هو نقطة الجذب الأساسية في أفلام المخرج.
وقائع مخيفة
الموضوع الذي يطرحه الفيلم الجديد مأخوذ عن أحداث حقيقية وقعت في عشرينات القرن الماضي عندما اغتيل عدد من أعيان وأثرياء قبيلة أوساج الهندية تبعا لخطة تصفية أدارها رجل أبيض ونفّذها أعوانه.
للأسف، لم يكن موضوع الفيلم ليستحوذ على أكثر من نصف هذا الإهتمام لو أن مخرجا من غير الصف الأول من مخرجي أميركا اليوم (وهو صف يقف فيه حاليا سكورسيزي بجانب كريستوفر نولان وديفيد فينشر وريدلي سكوت وجيمس كاميرون وثلّة من الآخرين) قام بإخراج الفيلم.
اسم سكورسيزي ونوعية الفيلم بوصفه عملا جادا حول قضية لم تتعرّض لها السينما من قبل (إلا مرّة واحدة) أدّت للكشف عن وقائع مخيفة في تاريخ العلاقة بين البيض والمواطنين الأميركيين الأصليين، أو كما لا يزال البعض يصفهم بـ"الهنود الحمر"، يقفان وراء اهتمام الجمهور الذي لم يكن مطلعا على القضية المُثارة في الفيلم ولا على تاريخها الواقعي.
المرّة الوحيدة التي أقدم فيها فيلم ما على التعرّض لهذه القضية، وردت في فيلم "قصة الأف بي آي" (The FBI Story)الذي أخرجه العتيق مرفن ليروي وتسلم دفة بطولته جيمس ستيوارت في سنة 1959.
تكوّن ذلك الفيلم من عرض خمسة ملفّات لنشاطات جهاز "مكتب التحقيقات الفيديرالي" الذي كان أُسّس حديثا في الخمسينات. أحد هذه النشاطات تمحور حول ملف جرائم القتل التي وقعت لأثرياء القبيلة بهدف سرقة أراضيهم. الحبكة تمّت بحسب الخطة التالية: اغتيال أحد أثرياء أفراد القبيلة ثم المسارعة في الاستحواذ على أرضه بصفقة بيع جاهزة. الغاية ليست الاستحواذ على الأرض فقط، بل الاستحواذ على النفط الذي تحويه أراضي القبيلة في ولاية أوكلاهوما (إحدى أهم الولايات المدرّة للنفط في الولايات المتحدة).
فيلم ليروي لم يحقّق الأثر التجاري على الرغم من عنوانه الجاذب، لكنه فتح نافذة من نحو ثلث ساعة على القضية التي بادر فيها بطل الفيلم، المحقق تشيب هاردستي (شخصية خيالية)، الى التحقيق في شكاوى بعث بها أفراد من قبيلة أوساج تطالب مكتب التحقيقات الفيديرالي بالإهتمام بما يحدث. ج. إدغار هوفر، رئيس المكتب، طلب من هاردستي الانتقال إلى ولاية أوكلاهوما للتحقيق، وهذا اكتشف حقيقة ما يحدث وهي الحقيقة التي تظهر، على نحو أوسع وأكثر إلماما، في فيلم سكورسيزي الجديد.
شهادة
في حين أن "قصّة الأف بي آي" ينتقل بين خمس قضايا مختلفة (من بينها واحدة حول ممارسات عصبة كوكلكس كلان العنصرية وأخرى عن محاكمات المكارثية للمتهمين بالانتماء الى الشيوعية خلال الخمسينات) يدور "قتلة زهور القمر" بكامله حولها وفي ثلاث ساعات و40 دقيقة من العرض. وهو فيلم مقتبس من كتاب لديفيد غران يتناول الوقائع على نحو قريب ويحاذي الكتابة الوثائقية.
كُتب الكثير، شرقا وغربا، وبإعجاب كبيرعن هذا الفيلم، مما منح سكورسيزي، ابن الثمانين عاما، انتصارا معنويا جديدا يكمل سلسلة انتصاراته السابقة عبر تاريخه الطويل من الأعمال المشهودة.
القضية المثارة جنائية في الدرجة الأولى وفيلم سكورسيزي يبدأ بنماذج منها. أشخاص غامضون يقتلون رجالا من قبيلة أوساج الهندية من دون ترك أثر. العمليات دموية والمخرج يختار شكلا توثيقيا قبل الانتقال إلى ما هو روائي. هذه البداية شبيهة ببداية فيلمه الشهير "الرفقة الطيبة" الذي عمد فيه إلى تصوير سقوط ضحايا عمليات مافيوية في نيويورك. الفارق أن الأحداث التي يتناولها في فيلمه الأخير وقعت بالفعل ولو أنها سُجلت كحوادث انتحار عبر رئيس شرطة البلدة المرتشي (أبيض).
الحال هنا هي أن الأرض التي أفردتها الحكومة الأميركية لقبيلة أوساج كمحمية بعدما نقلتهم من أراضيهم الأصلية في ولاية ميسوري إلى ولاية أوكلاهوما، كانت تحتوي على مخزون هائل من النفط ومن المشكوك جدا فيه أن الحكومة الأميركية لم تكن لتمنحهم تلك القطعة الكبيرة من أراضي الولاية لو إنها كانت تعلم أنها حبلى بالنفط.
الاعتراف
بعيد اكتشاف النفط في أراضي القبيلة، بدأت، في مطلع العشرينات وحتى منتصفه، حوادث قتل غامضة، والضحايا كانوا دوما من أثرياء النفط الأوساجيين. أما الجهة التي تدير تلك الإغتيالات فتتجسّد في شخصية صاحب البنك الذي يودع فيه أثرياء القبيلة أموالهم. خطته تقتضي التخلص من الأثرياء ثم شراء أراضيهم بأسعار بخسة مستحوذا على خيراتها. عدد الضحايا، بحسب تقدير المؤلف ديفيد غران، لا يقل عن 20 فردا (ذكر في كتابه أن الرقم قد يصل إلى 200 فرد اختفوا بطريقة غامضة لكن الفارق بين 20 و200 يبدو كبيرا).
في الفيلم تعاون المسؤولون المحليون مع صاحب المصرف وليام هايل على إقناع قادة القبيلة بأنهم ليسوا مؤهلين لاستثمار أموالهم وبأنهم في حاجة إلى مرشدين. فاقترح هايل للمهمة وهذا لم يثر الريبة لدى الأوساجيين كونه كان دائم التودد لهم، مظهرا المحبة والوئام من دون أن تحفّظ أو عنصرية.