غزّة مرّة ثالثة وعاشرة… وما بعد الألف

غزّة مرّة ثالثة وعاشرة… وما بعد الألف

في الوقت الذي يُباد فيه شعبُ غزّة وعمرانها بوحشيّةٍ، وعقارب السّاعة ثكلى بالقتلى من مدنيّيها الدقيقة تلو الأخرى، يلسعك السؤال الحارق: فيما جدوى الكتابة عن شيء آخر وأهلُك الفلسطينيون محض أشلاء تحت القصف الإسرائيليّ المتواصل بلا هوادة؟

كيفما كانت قيمة وجدية هذا الشيء الآخر الذي تعتزم الكتابة عنه، تلفي يدك مقشعرّة أمام البياض وقد ضرّجه دم الضحايا هناك، فتجد نفسك منشطرا أمام لدغة الموقف الملتبس: ما الأجدى فعلا؟ أن تواصل الكتابة عن مذابح غزة لا من باب الواجبِ المُلزِم والتعاطف البديهيّ، ولكن من باب ما تمليه عليك إنسانيتك مِلْءَ حريةِ موقفك أوّلا وأخيرا، أم تنصرف إلى ما كنت تنوي كتابته ولا علاقة له بالضرورة بما يحدث، ولكن أن تكتبه على نحوٍ جيّدٍ يستوفي الصدق والعمق والجمال... ولا غرو، فالمسألة ضمنيا وعمليا محض احترام لنفسك وللآخرين... وفي كلا قلقِ الأمرين، الصّمتُ أو إرجاء الكتابة ليس الخيار الذي ترتضيه لدويِّ صخبكَ الدّاخليّ.

هذا ما ينتابُك بشكل مُفارقٍ -ككاتب مقال رأيٍ على الأقلّ- وأمّا الكتابة الروائية وغيرها من تشعّبات شجرة الأدب فلا خِلافَ في أن تكون الابنة الشقية لحريتها مبدئيّا، لكن غير ملزمة بالرّاهن على نحو سريعٍ، إذ المسافة ضرورية بين ما يقع وما سيكتب لاحقا.

من المسيء للكاتب والكتابة معا، بل للقضية الجذرية المعنيّة، أن يكون الدافع وراء النّص هو التوجّس أو الخوف من عِتاب الآخرين للذات الكاتبة، كإدانة لصمته المريب أو عدم خروجه من منطقة ظلِّ المراقب


من المسيء للكاتب والكتابة معا، بل للقضية الجذرية المعنيّة، أن يكون الدافع وراء النّص هو التوجّس أو الخوف من عِتاب الآخرين للذات الكاتبة، كإدانة لصمته المريب أو عدم خروجه من منطقة ظلِّ المُراقِب لما يحدث إلى منطقة التصريح علنا بالمُضْمرِ، بما هو حريٌّ بفوْرةِ المقام.

شيءٌ حقيقيّ يبطلُ في حالة التوجس اللانزيهة هذه، إذ إرضاء الآخرين كيفما اتفق هو مبعث الكتابة، اتّقاء هجومٍ جاهز يضع الكاتب موضع شبهة، موضع تخاذل، موضع خيانة، والحال أن مبعث الكتابة يجب أن يتماهى مع حريته، أن يتطابق مع تلقاء موقفه خارج الإكراه، بعيدا عن إلزامية ما تفرضه سلطة الخارج، إذ الإنصاتُ للدّاخل هو المطلوب بصورة أمينة لا استسهال أو مجاملة فيها.

من المسيء للكاتب والكتابة معا، بل للقضية الجذرية المعنيّة، أن يكون الدّافع وراء النصّ محض مغازلة أو من كليشهات الانحياز وفق عصبية أو شعار أو حزبية... إذ ما قيمة الكتابة إن لم تكن جسورة، صارخة في إخلاصها لذاتها بانسلاخ عن رومانسية ثورية فجة عابرة، وبالتصاقٍ في الآن نفسه بما هو ألحُّ جوهريّة وإنسانيّة: تطابق الكتابة بحرّيةٍ مُطلقة مع الرؤية الصّرفة إلى ما يحدث، فلا برهة قائمة لأي رياح تلفيقٍ تزجّ بالكاتب ونصّه في فخّ الإدّعاء أو الانزلاق إلى ظاهرة الشجب والإدانة كموضةٍ، وليس كموقف فعليّ تشمخ به عمارة كتابته الناهضة على أرض وعيه الصلدة.

شيءٌ حقيقيٌّ يبطل في حالة التّعصّب الهشّ هذه وفق ما تقترفه الكليشهات التي لا يعدو صداها أن يكون فرقعة فقاقيع صابون، في حين يقتضي أثر الكتابة المنذور للتاريخ والقضية معا، أن يكون مطابقا للجرح الغزّاوي من الداخل، أن يكون هذا الأثرُ خارطتَه وشفرتَه، طابع بريده الكوني الدامغ، الذي لا يمحى أمام أعتى متغيرّات حالات الطقس الإنسانية.

من المسيء للكاتب والكتابة معا، بل للقضية الجذريّة المعنيّة، أن يظل استباق الإدانة جاهزا، مألوفا ومكرّرا بلغة استهلكت شروطها التاريخية والجمالية، لدرجة أمسى هذا الاستباقُ باردا مقابل جحيمٍ مُسْتعرٍ كجحيم غزّة اليومي.

شيء حقيقيٌّ يبطل في حالة القاموس المستعمل منذ سبعين سنة، حتّى باتت الوصفات البلاغية لا تتشابه وفقط، بل هي نفسها المستخدمة وقد فقدت صلاحيتها لكل الوقائع المأساوية التي ارتكبتها الآلة الصهيونية بفداحة، ومن حيث لا تدري هذه الوصفات المهترئة، تساوي بين كارثية وعنف وتراجيديا مجمل الجرائم والمذابح بما فيها فصل الإبادة الشامل الآني الذي تتعرّض لها غزة وشعبُها منذ 29 يوما والآتي أسوأ وفق ما تفصح عنه نوايا التقتيل الإسرائيلي الجماعي لفلسطينيّي القطاع المفتوح على اللانهائي.

هذا ما يهاجسك الآن وتحسبه يُهاجسُ  الكاتب العربي خارج جحيم غزة، وأمّا كتاب غزة من الدّاخل فهم الأشهدُ على هول الكارثة والأجدر بكلّ بيانٍ صارخٍ بلسان المذبحة الشّاملة.

 غزة من تكتب نفسها بدم قتلاها الأبرياء فوق ما تحتمله لغة أو تستوعبه مخيّلة. غزة من تكتب نفسها بأنقاض عمرانها فوق ما تحتمله لوحةٌ أو يستوعبه فيلم سينمائيّ

وفي ما تعتزم الكتابة ها هُنا ما تزال، يحتدُّ لسْعُ السؤال الحارق مرّة ثانية وعاشرة وألفا:

 في الوقت الذي يُباد فيه شعبُ غزّة وعمرانها بوحشيّةٍ، وعقارب السّاعة ثكلى بالقتلى من مدنيّيها الدقيقة تلو الأخرى: فيما جدوى الكتابة عن شيء آخر وأهلُكَ الفلسطينيون محض أشلاء تحت القصف الإسرائيليّ المتواصل بلا هوادة؟

لنكن واقعيّين بسعةِ نكبةِ المقام وفجائعيّة مَهْلكتِه:

كيفما أسعفتنا رياح اللغة، بما تشتهيه سفُن المخيلة. كيفما جمحنا إلى الأقصى وتخطيناه في مجهول النص. كيفما توهّمنا المُطابقة بين أثر الكتابة وجُرح الواقع. كيفما لَمْلَمْنا صور الجحيم الغزاوي في غرفة تحميض الكتابة... لا يغدو الأمر أن يكون صرخة مدويّة في خلاء موحشٍ.

إذ غزة من تكتب نفسها بدم قتلاها الأبرياء فوق ما تحتمله لغة أو تستوعبه مخيّلة. إذ غزة من تكتب نفسها بأنقاض عمرانها فوق ما تحتمله لوحةٌ أو يستوعبه فيلم سينمائيّ. إذ غزة من يكتب نفسها بأرواح أطفالها فوق ما تحتمله قصيدة أو تستوعبه أغنية. إذ غزة من تكتب نفسها بدموع أمّهاتها فوق ما تحتمله تراجيديا أو تستوعبه مأساة. إذ غزة من تكتب نفسها بجرحاها فوق ما تحتمله مرثية أو تستوعبه رواية. إذ غزة من تكتب نفسها برمادها فوق ما يحتمله نشيد أو تستوعبه تغريبة.

font change