يبحث حسن نصر الله باستماتة عن العالمي والكوني لكي يحاربه. ينظر إلى الأساطيل الأميركية المرابطة في المنطقة بنشوة وحماس، مؤكدا أنها لا تخيفه وأنه أعد العدة لها، ولكن حقيقة معركة غزة وشبكة الاستثمارات الدولية الواسعة فيها شدا وجذبا تعيده رغما عنه إلى حدود المنطقة، لتحوله إلى مجرد لاعب صغير في باحتها الخلفية.
تلك العملية الفلسطينية لحركة "حماس" تُوقعه في الالتباسات، وتدفعه في اتجاه التروي والركون إلى الغموض، لأنها تثبت قبل كل شيء أن لا طرف فلسطينيا يثق به ولا بإيران، وأن إخفاء "حماس" المتعمد لعملية بهذا الحجم والنوع، إنما يعود إلى معرفة مسبقة بخواء عنوان وحدة الساحات.
تعريف المعركة التي يجب أن تخاض بكل الإمكانيات وكل الزخم لا ينطبق على ما يجري في غزة الآن، لذا اختار لها في خطابه الأخير العبارات المنتمية إلى معجم الجمعيات الإنسانية؛ التضامن والمساندة ظهرا على سطح الحدث وأغرقاه في سخرية مرة. اختفى الأصبع المهدد، وخابت آمال الجماهير المتحمسة للصواريخ التي ستدمر إسرائيل وتحرر فلسطين، ولكن السياسة لم تحل مكانه، بل تركت الساحة مفتوحة لاعتبارات تسرف في تجاهل كل الوقائع المحيطة بغزة ولبنان والمنطقة.
أبرز هذه الوقائع يتعلق بأن قرار توسيع المعركة بات في عهدة نتنياهو وفريقه الحربي، ولم يعد عنده بعد مرور أكثر من أربعة أسابيع على حرب غزة. النزوع الإسرائيلي الغالب والميال إلى توسيع الجبهات والتخلص من "حماس"، و"حزب الله"، وحتى الذهاب في اتجاه فتح معركة مع إيران مباشرة، لم يعد خافيا على أحد، بل بات معلنا ومباشرا وتتفق عليه الإدارة الإسرائيلية الحالية التي تجد في الاندفاع الأميركي والأوروبي للوقوف وراءها بكل هذا الزخم غير المسبوق والذي يصعب تخيل أن يقدم عليه أي رئيس أميركي بعد بايدن فرصة للحسم. إسرائيل مستعدة للتصعيد المفتوح وتدفع في اتجاه إجبار أميركا على خوض معركتها.
إسرائيل مستعدة للتصعيد المفتوح وتدفع في اتجاه إجبار أميركا على خوض معركتها
من هنا، فإن نصرالله يريد أن تحمل مشاركته التي لن يترك له خيار تحديد توقيتها عنوان الحرب مع الأميركيين أنفسهم. قالت قناة "سي إن إن" نقلا عن مسؤولين أميركيين إن هناك قلقا عميقا من عدم وجود سيطرة إيرانية كاملة على "حزب الله"، ما قد يدفعه إلى التصعيد. أكد نصر الله بنفسه على هذا الأمر في خطابه؛ حيث أشار إلى أن إيران لا تتدخل في قرارات المقاومات بل تترك الخيار لقياداتها، ولعل هذا يعني أن أميركا تفاوض إيران جديا على رأس "حزب الله" وتدعوها للتخلي عنه مقابل تجنيبها خوض حرب مباشرة معها وإعادة فتح أبواب المفاوضات معها لاحقا.
اخترقت أميركا عدة خطوط حمراء باستهدافاتها لمواقع إيرانية في سوريا، لإثبات مدى جديتها في خوض معركة مباشرة معها، ولكن نصرالله اختار أن يلعب وحزبه دور الدرع الواقي بإعلانه عن استعداده لخوض معركة إيران ضمن إطار فلسطيني يرتبط بعنوانين هما: وقف الحرب على غزة، وأن تنتصر "حماس" في غزة.
من الواضح أن الأميركيين يرفضون وقف الحرب على غزة، وأقصى ما يمكن إجبار إسرائيل على قبوله حاليا الموافقة على هدنة إنسانية لا تتجاوز ساعات بغرض إجلاء المدنيين من حملة الجنسيات، وترفض إسرائيل خروج المرضى والمصابين للعلاج في مصر، ولا زالت تمنع دخول الوقود بغية تحويل غزة إلى مقبرة جماعية.
كيف يمكن أن يوقف نصرالله الحرب؟ وهل يمكن أن يؤدي تدخله الانتحاري إلى تحقيق هذا المشروع وخصوصا أنه مقرون بشرط انتصار "حماس"؟
تأجيل انخراطه المفتوح في المعركة وإعادة تلاوة ما قاله الصحافيون والمحللون المحسوبون على خطه في الآونة الأخيرة لناحية إشغال الجيش الإسرائيلي على الحدود اللبنانية بقواته وفرقه وتخفيف الضغط عن غزة، يكشف عن الرغبة في تدمير فلسطينية المعركة والتي تقول كل المؤشرات إنها في صدد التحول إلى معركة فلسطينية شاملة تنفجر فيها الضفة الغربية كذلك وتتحول "حماس" إلى جزء بسيط منها.
يلتقي نصرالله في مشروعه هذا مع طموح إسرائيلي يميل إلى ربط كل الفلسطينيين بـ"حماس" وتدمير كل سياقات الشرعية الفلسطينية وتحويل الشأن الفلسطيني عموما إلى تهديد إرهابي
يلتقي نصرالله في مشروعه هذا مع طموح إسرائيلي يميل إلى ربط كل الفلسطينيين بـ"حماس" وتدمير كل سياقات الشرعية الفلسطينية وتحويل الشأن الفلسطيني عموما إلى تهديد إرهابي. ما شرعن ولا يزال ينتج سياقات دعم دولية صلبة لحرب إسرائيل على غزة يبنى على أن من يواجهها طرف موسوم بالإرهاب بغض النظر عن ملابسات هذا التوصيف.
ولكن مشاهد تسليح المستوطنين في الضفة على يد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير والاعتداءات التي يقومون بها باستمرار ضد الفلسطينيين أثارت رعبا مزدوجا في الداخل الإسرائيلي وعند الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وجد نفسه مضطرا لإدانة المشهد بينما كان في طليعة مشرعني كل ممارسات الاحتلال في غزة مهما كانت ضخمة ومهما تمادت في خرقها القانون الدولي.
واستبق بايدن كل التحقيقيات عندما سارع إلى نفي مسؤولية إسرائيل عن استهداف مستشفى المعمداني، هو مشهد لا يزال ماثلا في الأذهان، وكذلك اكتفاؤه بتوجيه تقريع لطيف للجيش الإسرائيلي يلفت فيه إلى ضرورة الالتزام بالقانون الدولي وتجنب استهداف المدنيين.
ما يفسر ذلك الزخم الإسرائيلي لتحويل الضفة الغربية إلى حالة أمنية بالكامل وحجم الاعتداءات الكبير والعدد الكبير للقتلى قياسا على عدم وجود حالة حرب معلنة وواضحة، يقول إنها تستجر ردة فعل يائسة وفوضوية في اتجاه الإسرائيليين تتخذها حجة لسحب كل شرعية فلسطينية تمهيدا لتعميم حالة الإهدار الشاملة لحيوات الفلسطينيين وإلصاق صفة الإرهاب بكل المكونات تمهيدا لنسف حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية بالكامل.
لا يريد حسن نصرالله أن ينتصر الفلسطينيون بل يريد أن تنتصر "حماس" بعد أن تكون قد أوشكت على الهزيمة بفضل تدخله المنتظر
يمد نصرالله يد العون لهذا المشروع، فهو لا يريد أن ينتصر الفلسطينيون بل يريد أن تنتصر "حماس" بعد أن تكون قد أوشكت على الهزيمة بفضل تدخله المنتظر، وبذلك يصادر كل ذلك الزخم الفلسطيني للمشهد ويمنع إجراء تسوية فلسطينية- فلسطينية ويعيق أي مسار عقلنة يمكن أن تلجأ إليه "حماس" ويربطها به وبصورته.
معادلة الردع التي ينادي بها "حزب الله" في لبنان وجبهاته المنضبطة والبيانات الإحصائية الباردة عن مدى إشغال قطعات ووحدات الجيش الإسرائيلي ما ساهم في تخفيف الضغط على غزة بها، لم تمنعها من تدمير أرزاق الناس في القرى الحدودية؛ حيث أحرقت 40 ألف شجرة زيتون. والزيتون بالنسبة للناس هو الأرزاق والأعمار، ولكن كل ذلك لا يحسب.
نصرالله قال إنه كان قد سبق له الانخراط في المعركة منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، وإنه يترك كل الاحتمالات مفتوحة وكل الخيارات مطروحة. الأرجح أنه سينتظر اللحظة التي تبدأ فيها إسرائيل بفقد شرعيتها، ويبدأ العالم في الانتباه إلى أنه لا يمكنه احتمال ما تقوم به من دون أن يختل، وأن عليه العودة إلى التعقل والسياسة. ساعتها سيتدخل؛ محاولا جر مشهد النضال الفلسطيني المؤهل للتحول إلى قضية حق وعدالة في كل مكان إلى ما ترجوه إسرائيل وتتمناه من إغراقة في عنوان الإرهاب.