- ما سرّ ذلك الوجه الأنثوي الباكي الحزين الذي يتكرّر في الكثير من لوحاتك؟
حقيقة لا أعرف... ربما هي وجوه الفلاحات والريفيات أو وجه أمي وأخواتي، أو وجوه حبيباتي. لا أعلم بالضبط ما مرجعية هذا الوجه الشفيف الذي يحضر بكلّ هذا الشجن في لوحتي. لكن أستطيع القول إنني من خلال هذه الوجوه أحاول التعبير عن حالات الحزن والفرح والأمل والانتظار والنزوح، هي وجوه نساء حائرات وسط كرنفال اللون، وما أعرفه أيضا هو أنني عندما أرسم هذه الوجوه، لا بد من أن أسمع الموسيقى التي تضبط إيقاع الريشة. طبعا لا أقصد سيمفونيات شوبان وموتسارت، بل صوت الناي الذي يشبه صفير الهواء في البراري، أو نغمات البزق التي تلامس الوجدان، وهذا هو الطقس الوحيد الذي يرافقني في الرسم. وعلى ضوء ما يقال من أن تفسير اللوحة الواحدة يتعدّد بتعدّد المتلقين، بمعنى أن كل متلق يرى اللوحة من زاوية مستواه الثقافي ومرجعياته وبيئته الإجتماعية، فأعتقد أن تلك الوجوه الغارقة في الدعة، والبساطة لا يمكن أن تربك الناظر الذي سيخمّن، دون عناء، من أين أتت، ولِمَ هي منطوية على روحها الكسيرة.
- ماذا عن الجانب التقني في إنجاز اللوحة، وسبب هيمنة التركواز والأبيض على الكثير من أعمالك؟
بالنسبة للتقنيات، في بداية تجربتي كنت أميل للمدرسة الواقعية، فيما بعد وجدت الملاذ في الانطباعية، وما تتطلبه هذه الأساليب من تقنيات محددة. الآن، وبعد نحو 35 عاما من التجربة، وتراكم الخبرة بشأن كيمياء اللون وخصائصه، توصلت إلى تقنيات خاصة بي، فإلى جانب تقنيات التصوير الزيتي، والكولاج، والغرافيك... أستخدم كذلك في لوحتي الرمال والخرز الملون وقطعا خشبية عتيقة، ونتفا من القصب المزركش والأقمشة ذات التطريزات والنقوش الفلكلورية... أعالج هذه العناصر والخامات بطرق معينة على سطح اللوحة بحثا عن نوع من التجديد والتجريب.
في التشكيل، والفنون عامة، فإن الأفكار "مرمية على قارعة الطريق"، كما يقال، لذلك المسألة الأهم تكمن في كيفية التعبير عن تلك الأفكار وبأي تكنيك جمالي. أما سبب هيمنة لون التركواز، فهو المكانة التي يحظى بها هذا اللون في مجتمعاتنا الشرقية من الخرز الأزرق بمختلف تدرّجاته، إلى القبب الزرقاء في الحضارات الآسيوية... والتركواز تعبير إنكليزي يقابله في العربية الفيروزي، وهو لون أحد الأحجار الكريمة، فتبدو اللوحة قطعة من الحجر الكريم النادر، كما أن لون التركواز عندما يتجاور مع لون الرمال المائلة إلى البني، فإن ذلك يمنح اللوحة جمالية خاصة تجمع بين لون الأرض والسماء، ثمة طاقة جمالية وربما روحانية أيضا في تجاور هذين اللونين. بالنسبة إلى اللون الأبيض فهو أحد أكثر الألوان رهبة واستفزازا بالنسبة إلى التشكيليين، فهو يتطلب حساسية عالية ودقة وأناة أثناء الرسم، للتوصل إلى نتائج مرضية، لأن الأبيض فيه تدرّجات حساسة جدا، وتعاملي مع هذا اللون جاء بعد سنوات من ممارسة الرسم إلى أن توصّلت لكيفية توظيفه وخصوصا مع الأسود، وما بينهما من تدرجات، لخلق فضاءات تمنح اللوحة الدلالات والمعاني التي أطمح في إيصالها إلى المتلقي.
- على المستوى المحلي والعربي، فإن معلمك الأول هو فاتح المدرس، ماذا بالنسبة إلى تجارب الفنانين العالميين؟ بمن تأثرت؟ أو أي التجارب لفتت انتباهك؟
خلال الدراسة الأكاديمية اطلعت على مختلف المدارس والتيارات الفنية من عصر النهضة إلى الباروك إلى المدارس الواقعية والتعبيرية والرومانسية والوحشية والتكعيبية والسريالية وغيرها، ووجدت أن كل مدرسة تحمل جماليات خاصة بها رغم الاختلافات الشاسعة بينها. لكن على مستوى الذائقة الشخصية، وبمعزل عن النقد الأكاديمي، فأنا من المعجبين بالفنان الروسي إيليا ريبين (1844 - 1930)، الذي كان أحد أبرز فناني التيار الواقعي الروسي في القرن التاسع عشر، ويعتبره مؤرّخو الفن في مكانة ليو تولستوي في الأدب. وكذلك تدهشني أعمال الفنان السويسري غوستاف كليمت (1862 - 1918) صاحب لوحة "القبلة" الشهيرة، والذي عرف بـ "الفنان الذهبي"، بسبب أعماله المكسوة بأوراق الذهب.
اقرأ أيضا: بيكاسو الإشكالي في زمن "أنا أيضا"
- كيف أثرت الأزمة السورية على أعمالك؟
على الرغم من معرفتي أن اللوحة، والفن عموما، ينبغي ألا تتاثر بشكل انفعالي وآني بالأحداث، غير أنني في بدايات الأزمة السورية كنت أدخل مرسمي بشعور هو مزيج من الألم واليأس والرعب، حتى أغرقت مرسمي باللون الأحمر. كنت أرسم على الكرتون بانفعال قوي. لكن سرعان ما هدأ الانفعال، ليحل محله خيار تشكيلي آخر وهو رسم الحب في زمن الحرب كأن أرسم عاشقين على ظهر دبابة، أو غضن زيتون في فوهة بندقية. أعرف أن هذه الفكرة ليست جديدة، لكنها تظلّ صالحة في الوضع السوري، ففي أزمنة القمع والهمجية والقتل والتشريد ورائحة البارود وأزيز الرصاص، ليس أمام الفنان سوى تأكيد الحب والتعايش والتسامح، والتقاط ومضات الجمال وسط الركام. وينبغي القول إنني ضد أدلجة الفن، ذلك أن الفنون عندما تتورط في ألاعيب الدعاية والبرباغندا لا تغدو فنا، بل منشورا دعائيا فجا تنتهي صلاحيته بانتهاء الحدث الذي عبرت عنه.
- ما دور الفنون في مثل هذه الأزمات والحروب؟
الفنون بصورة عامة، ومن بينها التشكيل، ليست قادرة على إحداث التغيير، فهي عاجزة عن فعل شيء ملموس ومباشر إزاء آلة القتل، لكنها وفي الآن ذاته، تستطيع، بقوتها الناعمة، إظهار بشاعة الحروب، عبر التأكيد على مفردات وعناصر تحث على تحقيق العدالة وتسمو بالأخلاق.
جدارية غرنيكا لبابلو بيكاسو (1881 - 1973) التي يبلغ طولها 3.5 أمتار، وعرضها 7.8 أمتار، والتي استوحاها من قصف بلدة إسبانية من قبل الطائرات الألمانية والإيطالية التي كانت تساند الجنرال "الفاشي" فرانكو في 1937 خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939)، جسدت فظائع الحرب وصورت الدمار والخراب، وأصبحت أيقونة فنية في القرن العشرين مناهضة للحروب والعنف.