بعض الرؤى تقودنا إلى سفر البحث والاطلاع على ما تحكمه الظروف التاريخية والذاكرة الجغرافية الشاسعة للخوض فيها، وكيف تتحول إلى فن وأدب، مرورا بغنى المتخيل، وبطرح الأسئلة كما هي تجربتي الخاصةمنذ وقوفي أمام لوحة "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" للرسام الهولندي فيرمير، المعروضة في متحف "ماورتشهاوس" في لاهاي الهولندية، ولأنني سائحة قادمة من خليج اللآلئ الطبيعية، نظرت إلى حجم القرط، ثم مباشرة إلى سنة إنجاز اللوحة، فكانت في 1665، أي القرن السابع عشر، ومن هنا أخذت أفتش عن فترة الوجود الهولندي في الخليج وبحثهم المعروف عن مغاصات اللؤلؤ.
كانت موانئ هولندا في هذه الفترة تستقبل البضائع الشرقية بسخاء، وأحوال هولنداالمادية قد تغيرت للأفضل، وتغيرت معها المدارس الفنية التعبيرية الهولندية في عصرٍ تجاريٍ ذهبي، والمتابع يلاحظ كيف أتى المجددون من فيرمير ورامبرانت وجون هندريك برايتنر إلى يعقوب فان كامبن وغيرهم... تحمل رسوماتهم سجاجيد شرقية فاخرة، ولوحات لخرائط التوسع الهولندي، وسفنه مالضخمة، وبورتريهات لجغرافيين وملاحين وعلماء البحر... تعبيرا عن إمبراطوريتهم الاستعمارية المنافسة والمسيطرة على التجارة في أفريقيا والخليج العربي وآسيا وغيرها...
أمّا البحث في القرن السابع عشر وفي حوض الخليج تحديدا، فانه يقود حتما إلى ملاحظة المغامرات الأوروبية حينها بسفنهم وشركاتهم وأطماعهم، لكن من بين كل المدن الخليجية بحثت عن علاقة هولندا بـ جلفار أي رأس الخيمة، فوجدت أنه حتىعام 1650 لم تكن جلفار معروفة للأوروبيين كمركز تجاري، ولا ببال الإنكليز منذ دخولهم الخليج بسبب انشغالهم في المنافسة التجارية مع البرتغاليين.
بعض الرؤى تقودنا إلى البحث عن الماضي، من أجل فهم الواقع الراهن، وما نحن عليه اليوم في أسواقنا المغتربة ببضائعٍ ولادة من سلالة شركات الهند الشرقية الأوروبية، فهل تغير شيء؟
لكن، خلال هذه الفترةاستولى الهولنديون على سفن إنكليزية وبرتغالية، وشعروا بالانتصار والسيطرة، وبأنهم لا محالة قادمون وحدهم على تجارة كبرى في الخليج كمصدر للأرباح، وأخذت آمالهم تكبر، مع تخطيط عملي، ولأن الهولنديين لا يملكون خبرة في صيد اللؤلؤ مثل أهل الخليج، ولا يعرفون مغاصاتهم التي تُخرج اللآلئ الطبيعية وبجودة عالية، ولأنهم أيضا وجدوا التجارة مع البصرة فاشلة بسبب تدخل الدولة العثمانية، ولأن ميناء بندر عباس المنتعش تحت سيطرة الفرس، ولأن بحر الخليج حجمه صغير، مقارنة بحجم المتوسط والبحر الأحمر،ولأن الخليج كان مزدحما حينها بسفن المتنافسين من الغرباء، ولأن الأخبار تنتقل بينهم بسهولة، فقد قرأ الهولنديون صدفة تقريرا كتبه الرحالة الفرنسي جان دي ثيفينو صاحب كتاب "رحلة إلى الشرق" والذي زار المدن العربية والأناضول والشرق والخليج العربي، ومن ضمنهم ساحل جلفار عام 1663، كتب: "جلفار تمتاز بحصن حجري، والسفن التجارية تأتيها من الهند وغيرها،وتتجه إليها محملة بالبضائع...".
بعد هذا التقرير، انتبه الهولنديون إلى جلفار، وقبل أي قرار قاموا بمراقبة الإنكليز والبرتغاليين في الخليج، ووجدوهم قد ابتعدوا عن مجال الغوص على اللؤلؤ، وأصبحوا يشترون اللآلئ من المنتج مباشرة، حينها قرر مدير شركة الهند الشرقية الهولندية، إرسال بعثة إلى جلفار، فالفرصة كبيرة للربح أمام الطلبات المتزايدة للعائلات المرفهة والمالكة في أوروبا من أجل تزيين التيجان والملابس باللآلئ الطبيعية. وبدأت تجارتهم، وربح الهولنديون في الخليج من خلال مكاتبهم في جلفار وكذلك البحرين وغيرهما، لترتفع أسعارهم، مقابل انخفاض تجارة الشركات الأخرى.
كان القرن الأكثر توسعا وسيطرة لهولندا الاستعمارية، وإن كانت مدة محدودة في السيطرة على بحر الخليج كأهم المعابر البحرية التي تنقل البضائع لكل أنحاء العالم، سواء من بوابته مضيق هرمز، إلى الهند والصين وسيلان وأفريقيا... أو من موانئ الساحل الخليجي الشمالي وحيث يتم تنزيل البضائع من السفن لتنقل شمالا إلى بلاد فارس برا، أو من خلال البصرة لتخرج السفن من بحر الخليج وتدخل نهري دجلة والفرات إلى تركيا ومن ثم أوروبا.
وعودة إلى لوحة "فتاة ذات القرط اللؤلؤي" فخر الفن الهولندي، ومن أبرز اللوحات التي تفسّر قلق الوجه واضطرابه، إلا أن اللوحة أخذت عنوانا مغايرا عما في وجه الفتاة من مشاعر، لتسمى صاحبة القرط اللؤلؤي، وليست هي اللوحة الوحيدة التي تعبر عن السيطرة الهولندية على مغاصات اللؤلؤ، فأغلب اللوحات التي رسمها فيرمير تظهر تأثيرات توسع إمبراطوريتهم، بعد أن كان الفن التعبيري الهولندي قِصصيا ودينيا مع تصوير القديسين والشهداء والمذابح والمناولة في الكنائس، لفنانين كلاسيكيين.
أخيرا، فإن بعض الرؤى تقودنا إلى البحث عن الماضي، من أجل فهم الواقع الراهن، وما نحن عليه اليوم في أسواقنا المغتربة ببضائعٍ ولادة من سلالة شركات الهند الشرقية الأوروبية، فهل تغير شيء؟