سجالات عراقية على هامش الحرب ضد غزة

مشاركة الفصائل المسلحة في الحرب، أم الاكتفاء بالخطابات والبيانات السياسية؟

AFP
AFP
عراقيون يشاهدون خطابا متلفزا لحسن نصر الله في ساحة التحرير بالعاصمة العراقية بغداد في 3 نوفمبر 2023

سجالات عراقية على هامش الحرب ضد غزة

رفض الحرب موقف أخلاقي وإنساني، وأكثر شيء يفضح المواقف هو المعايير المزدوجة. ويبدو أن الحرب ضد مواطني سكان غزة، باتت كاشفة لزيف الكثير من المواقف الأميركية والأوروبية التي ترفع شعارات ضد الحروب، وتتفاخر بأنها شرعت القوانين والمواثيق الدولية التي تجعل المدنيين أطرافا في الصراعات المسلحة؛ فلم تعد التصريحات والمواقف هي الداعمة لحرب إسرائيل ضد غزة، بل تحركات الأساطيل العسكرية وحاملات الطائرة، وكل هذا يتم تسويقه بأنه "حرب دينية" تبعث من جديد.

في المقابل، دول عربية وإسلامية تعلن موقفها الرافض لحرب الإبادة التي ترتكب ضد سكان قطاع غزة. لكن بالعودة بالذاكرة إلى مواقف بعض هذه الدول من حروب تَشنها الدكتاتوريات ضد شعوبها التي تطالب بالحرية والعيش الكريم، نجدها تندرج أيضا ضمن المواقف المتناقضة والازدواجية في المعايير؛ إذ إن قسوة الغزاة والمحتلين في قتل النساء والأطفال وتدمير المدن، لا تقل عن قتل المعارضين للنظام الدكتاتوري. فوحشية الغزاة والمحتلين لا تقل وطأة عن قسوة الدكتاتورية في القتل والدمار.

وتحت ظل التناقض في المواقف، يَعشق المتأدلجون الثنائيات المتعارضة، ويركز خطابهم نحو الآخر على مقولة: "من ليس معنا فهو ضدنا". ولا يترك حادثة أو مناسبة من دون أن تكون فرصة لاستعراض المواقف وإطلاق الشعارات والهتافات الحماسية، والدخول في سجالات مع "الآخرين" المختلفين معهم أو المنتقدين لهم. ولذلك تحولت منصات التواصل الاجتماعي وبرامج الحوارات السياسية في القنوات الفضائية إلى ساحة للتباري في تبرير الانقلاب على المواقف أو التحول نحو البرغماتية السياسية وترك المبادئ والشعارات التي كانوا يصدعون رؤوسنا بالدفاع عنها وكأنهم وحدهم حراس المعبد والعقيدة.

عندما ترفض الحرب وفق مبدأ التكلفة العالية في الأرواح والأموال التي تترتب على الدخول في المعارك المسلحة، عليك أن تواجه تهمة "الخيانة" للقضية الكبرى التي يؤمن بها المتأدلجون! وهنا أستعيد ما كتبه إيرك دورتشميد في كتابه "دور الصدفة والغَباء في تَغْيير مجرى التاريخ.. العامل الحاسم": "قد توجد حروب عادلة، غير أني لم أشهد واحدة لم تنته بآلام مهولة".

اقرأ أيضا: حرب غزة... ستة تطورات تجب متابعتها

ومن يتابع سجالات العراقيين بشأن الحرب ضد غزة، يجد أن الأعم الأغلب من المدونين في وسائل التواصل الاجتماعي يتفقون على رفض الحرب ضد غزة 

خطاب التخوين

ومن يتابع سجالات العراقيين بشأن الحرب ضد غزة، يجد أن الأعم الأغلب من المدونين في وسائل التواصل الاجتماعي يتفقون على رفض الحرب ضد غزة ويتعاطفون ضد الإبادة التي يتعرض لها المواطن الفلسطيني في غزة، ومع صور الضحايا من الأطفال والنساء ودمار منازلهم. إلا أنهم يتجادلون بشأن موقف القوى السياسية والفصائل المسلحة العراقية والتي ترتبط بعنوان "محور المقاومة"، وتحديدا الفصائل التي لديها تمثيل سياسي فاعل ومؤثر في الحكومة العراقية الحالية.

يلجأ المتخاصمون في وسائل التواصل الاجتماعي إلى كوكبة من الكلمات تحاول إحراج الخصوم، وفي الكثير من دلالتها مؤشر على خطاب التخوين! فالمدونون المدافعون عن الفصائل المسلحة في العراق ومحور المقاومة في المنطقة، أصبحوا منشغلين باستحضار الماضي لتأكيد موقفهم وتبرير شرعية سلاحهم، والرد على الخصوم، ومن ثم توجيه التهم إلى شركاء القوى السياسية الشيعية في الحكومة والعملية السياسية بعدم وجود موقف لهم في نصرة الفلسطينيين في حربهم ضد إسرائيل! ولم يكتفوا عند هذا وحسب، بل تحولوا إلى استعراض مواقف فصائل "محور المقاومة" مقابل مواقف دول عربية.

أنصار الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران يتجمعون في ميدان التحرير ببغداد لمشاهدة خطاب زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، 3 نوفمبر 2023

كل هذه الثنائيات المتعارضة التي يسعى إلى تسويقها "مغردو" الفصائل المسلحة في العراق، هي محاولة لتوسيع دائرة السجالات، بدلا من حصرها في سؤال بات يستفزهم كثيرا، وهو: لماذا لا تفتح "فصائل محور المقاومة" في العراق والموجودة في سوريا ولبنان جبهات جديدة ضد إسرائيل، لفك الخناق عن حصار غزة؟ ويبدو أن هذا السؤال بات مصدر إزعاج لمدوني وإعلاميي "الإطار التنسيقي"، كما يتم تسميتها من قبل ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي.

السجالات الآن في العراق، تدور حول سؤال: مشاركة الفصائل المسلحة في الحرب لنصرة القضية الفلسطينية، أم الاكتفاء بالخطابات والبيانات السياسية؟

اقرأ أيضا: كيف يستعد الغزيون للموت؟

في العراق لا يبدو موقف الفصائل المسلحة التي لديها مشاركة فاعلة في حكومة السيد محمد شياع السوداني، واضحا لحد الآن

في العراق لا يبدو موقف الفصائل المسلحة الحليفة لإيران والتي تؤيد أحزابا سياسية في الحكومة الحالية واضحا لحد الآن. رغم أن لافتات تنتشر في ساحات وتقاطعات بغداد تحمل صورا لقيادات سياسية في "الإطار" وهم يرتدون الزي العسكري، وتحمل شعارات لنصرة فلسطين. عدا ذلك يربط بعض القيادات الدخول في الحرب على غزة بالتدخل العسكري الأميركي في هذه الحرب، ولعل هذا موقف هادي العامري رئيس تحالف الفتح، والذي تطور إلى مطالبته بإخراج القوات العسكرية من العراق.

عدا ذلك كان الموقف البعيد عن السياسية وبعنوانه الصريح هو موقف الشيخ أكرم الكعبي زعيم حركة النجباء، والذي أعلن في تغريدة على حسابه في منصة "إكس" أن "المقاومة الإسلامية العراقية قررت تحرير العراق عسكريا وحسم الأمر، والقادم أعظم".

والتحول المثير للاستغراب في مواقف إعلاميي ومغردي "الإطار"، هو ردودهم على مطالبة مقتدى الصدر بإغلاق السفارة الأميركية في العراق؛ إذ تحولوا إلى مدافعين عن علاقات العراق الدبلوماسية مع أميركا وأوربا وحتى دول الخليج العربي. في حين أنهم هم أول من حاول اقتحام مقر السفارة الأميركية في بغداد يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 2019، وكان أغلب قيادات فصائل المقاومة يرحبون باستهداف البعثة الدبلوماسية الأميركية في المنطقة الخضراء وأربيل بصواريخ الكاتيوشا. وكان سيل الاتهامات يوجه  بين فترة وأخرى إلى السفارتين القطرية والإماراتية بتدخلهما في الشأن العراقي الداخلي.

ما لا يريد أن يدركه المتحمسون للدفاع عن دور إيران في المنطقة، أن إيران تخلت عن منطق الثورة

الجدل بشأن شرعية سلاح الفصائل بدأ مع دخولهم الانتخابات عام 2018؛ إذ باتت الأسئلة تطرح بشأن مستقبل التداخل بين السياسة والسلاح في عمل الفصائل المسلحة بالعراق. ويبدو أن المرحلة الحالية هي أكثر المراحل حساسية وحرجا لهذه الفصائل السياسية- المسلحة، بعد أن أصبحت الطرف الأكثر تأثيرا داخل "الإطار التنسيقي" الذي شكل الحكومة الحالية، ولديها وزراء ينتمون بعناوينهم الصريحة لأطراف الفصائل المسلحة. ولا يوجد أمامهم الكثير من الخيارات؛ فإما التماهي مع منطق الدولة، وإما البقاء ضمن دائرة عمل الفصائل المسلحة التي تريد إلغاء الدولة.

ما لا يريد أن يدركه المتحمسون للدفاع عن دور إيران في المنطقة، أن إيران تخلت عن منطق الثورة، وموقف سياستها الخارجية إزاء حرب إسرائيل ضد غزة، هو موقف دولة تقدر حسابات المصلحة والتوازن في علاقاتها الدولية. ويبدو أنها تركت خطابات التصعيد لأذرعها المسلحة في المنطقة. وبالنتيجة المتضرر من دخول تلك الفصائل في حرب مفتوحة مع الوجود الأميركي في العراق هم العراقيون وحدهم، وحكومة "الإطار التنسيقي" التي باتت حائرة بين منطق الفصائل المسلحة ومنطق الدولة.

السجال الآن بين مشروعين يتصارعان أجندة الفصائل المسلحة في العراق؛ فهل مشروعهم هو مشروع سلطة أم مشروع مقاومة؟

إن السياسة ومنطقها القائم على البرغماتية لا تتلاءم مع منطق المبادئ التي تعتقد أنها تحتاج لقوة السلاح لمواجهة الخصوم ومشاريع الهيمنة الأميركية ومواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين والدفاع عن "المستضعفين في الأرض". فإما السلطة وامتيازاتها ومسؤولياتها، وإما السلاح والتزاماته في الدفاع عن العناوين التي تشرعن حلمه.

font change


مقالات ذات صلة