من الصعب التحدث عما بعد حرب غزة، فأبعاد هذه الحرب لم تتضح بعد، بتفاعلاتها ومداخلاتها وتداعياتها، دوليا وإقليميا وعربيا، وعلى إسرائيل والفلسطينيين، فما يمكن تبيّنه الآن، يتمثل، أولا، في المفاجأة المتمثلة بقدرة "حماس" على المبادرة بالهجوم، والاستمرار في القتال، رغم القصف الوحشي منذ قرابة شهر، وتكبيدها إسرائيل خسائر، غير مسبوقة.
ثانيا، في هذه الحرب، كسرت صورة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر"، دون أن يعني ذلك هزيمته، التي تحتاج إلى موازين قوى ومعطيات عربية ودولية مختلفة، لكن صورة هذا الجيش بدت هشة عند الإسرائيليين قبل غيرهم.
ثالثا، بينت الحرب حاجة إسرائيل إلى حماية ودعم الولايات المتحدة، وهشاشة فكرة بعض قادتها عن حماية إسرائيل للمصالح الأميركية، فالولايات المتحدة والدول الغربية تهب لحمايتها، بعد أن تكفلت منذ 75 عاما بضمان أمنها وتفوقها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي في المنطقة، ما فضح حقيقة إسرائيل بكونها عبئا وليس ذخرا للولايات المتحدة وللغرب، أمنيا واقتصاديا وسياسيا وأيضا أخلاقيا، إذ إن القيم التي تعتبرها الدول الغربية رسالتها للعالم سقطت في الاختبار، وتبينت عن مخاتلة، وتلاعب، حين تعلق الأمر بفلسطين، وحتى بحرية الرأي في المجتمعات الغربية، بخصوص سياسات إسرائيل الوحشية والفاشية ضد الفلسطينيين.
بينت الحرب حاجة إسرائيل إلى حماية ودعم الولايات المتحدة، وهشاشة فكرة بعض قادتها عن حماية إسرائيل للمصالح الأميركية
رابعا، بينت الحرب مسألتين: أولاهما، تعزز عزلة إسرائيل، كدولة استعمارية وعنصرية ودينية وعدوانية، في الرأي العام العالمي، بدليل المظاهرات العارمة حتى في نيويورك وواشنطن ولندن، وبدليل مشاركة جماعات يهودية فيها. وثانيتهما، ترسخ قضية فلسطين، كقضية تحرر وعدالة ومساواة في الرأي العام العربي والعالمي.
ثمة نقطتا ضعف، أيضا، الأولى، تتمثل في عطب الجسم الفلسطيني، إذ إن معظم الكيانات السياسية السائدة، التي نشأت أواسط الستينات، باتت متقادمة، ومستهلكة، وثمة فجوة بين مجتمعات الفلسطينيين وكياناتهم السياسية في الداخل والخارج، بسبب التحول إلى سلطة، وسيادة فكرة العسكرة، وبسبب عدم القدرة على تثمير المعاناة والتضحيات والبطولات التي يبذلها الشعب الفلسطيني، سيما مع الدمار الهائل المحيق بقطاع غزة، والذي تشتغل إسرائيل على تحويله إلى مكان غير صالح للعيش. والثانية، افتقاد الفلسطينيين لحاضنة عربية فاعلة، في ظل انشغال حكومات العالم العربي بمصادر تهديد أخرى (إيران مثلا)، وفي ظل تفكك النظام العربي، وضعف إدراكاته لذاته، أو لمصالحه الاستراتيجية الآنية والمستقبلية.
وفقا للمعطيات المذكورة، ليس في الأفق ما يشي بإمكان توافق الأطراف المعنية على حل ناجز للقضية الفلسطينية، ولو على مستوى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، كحل الدولتين
وفقا للمعطيات المذكورة، ليس في الأفق ما يشي بإمكان توافق الأطراف المعنية على حل ناجز للقضية الفلسطينية، ولو على مستوى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، كحل الدولتين، فهذا الحل ينتظر منذ 56 عاما، حتى إن اتفاق أوسلو، الناقص والمجحف والمذل بالنسبة للفلسطينيين ولحقوقهم العادلة والمشروعة والمعترف بها في الأمم المتحدة، لم تنفذ إسرائيل الاستحقاقات المطلوبة منها فيه، علما أنه وُقع في البيت الأبيض الأميركي (1993).
الآن، ثمة من يعتقد أن تلك الحرب بالمعطيات التي تحدثت عنها، قد تدفع الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي نحو الضغط على إسرائيل للاستجابة لحقوق الفلسطينيين، وتسهيل إقامة دولة لهم في الأراضي المحتلة عام 1967. بيد أن التسليم بهذه المسألة لا يفيد، بحسب التجربة، فمثل هذا الحل لا يعني الحصول على دولة مستقلة حقا، لأسباب، أهمها: أولا، انتشار المستوطنات الإسرائيلية في عموم الضفة، وعزلها المدن والقرى الفلسطينية عن بعضها، وهو أمر يصعب التخلص منه دون جهد دولي حاسم، يكبح جماح الجماعات الاستيطانية المتطرفة، ويقطع مع فكرة الحفاظ على حساسية المجتمع الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين.
ثانيا، اعتمادية الضفة وغزة في مواردها من المياه والكهرباء وفي المعابر والتجارة على إسرائيل، بما في ذلك تصريف اليد العاملة (200 ألف عامل نظامي فلسطيني يشتغل في إسرائيل؛ هذا أيضا يفترض جهدا دوليا وعربيا لاحتضان دولة فلسطينية.
ثالثا، ثمة احتمال بالحفاظ على الأمر الواقع، مع كيانين سياسيين للفلسطينيين في غزة، وفي الضفة.
الفكرة أن أي خيار للفلسطينيين، وضمنه خيار الدولة المستقلة في الضفة وغزة، يحتاج إلى معادلات دولية وإقليمية وعربية مناسبة، تعوض اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل، وتمكن الفلسطينيين من استثمار كفاحهم وتضحياتهم، لكن الجهد يجب أن ينصب الآن على وقف الحرب، ووقف تدمير غزة، وتمكين مليوني فلسطيني من البقاء في أرضهم، ووقف اعتداءات الجيش وأجهزة الأمن وعصابات المستوطنين على الفلسطينيين في القدس والضفة.
المشكلة أن الفلسطينيين لا يملكون ترف مفاضلة الخيارات، بحكم ظروفهم الخاصة، وطبيعة عدوهم، وعدم ملاءمة الأوضاع الدولية والعربية لكفاحهم
المشكلة أن الفلسطينيين لا يملكون ترف مفاضلة الخيارات، بحكم ظروفهم الخاصة، وطبيعة عدوهم (الجيش والمجتمع) وعدم ملاءمة الأوضاع الدولية والعربية لكفاحهم. فهم ليسوا إزاء تجربة استعمارية على غرار بريطانيا في الهند، أو الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، حيث كان ثمة وطن أم للمستعمرين، ومع شبهها بالتجربة الاستيطانية العنصرية في جنوب أفريقيا (سابقا) إلا أنها تختلف لجهة قيام إسرائيل على آيديولوجيا دينية، وبجهد دولي، وتمتعها بضمانة الغرب، وهو ما كان يفتقده نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
مع ذلك، ولوضع حد لهذا الصراع الصفري المأساوي على الوجود للطرفين، ثمة حل الدولة الواحدة، لمواطنين أحرار ومتساوين، من النهر إلى البحر، وعلى أساس "نزع الصهيونية" (بتعبير إيلان بابيه)، وهو الحل الأمثل، ويتساوق مع قيم الديمقراطية الليبرالية، السائدة في الغرب، والغريب أن الدول الغربية، سيما الولايات المتحدة، تشتغل كدولة "رجعية"، في نأيها عن تعميم ذلك النموذج كحل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. والمغزى هنا أن حل الدولة الواحدة هو الذي يكفل حل مختلف جوانب المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية: (اللاجئون، والقدس، والمستوطنات، والحدود، والموارد المشتركة)، وهو الذي يطابق بين الحقيقة والعدالة (بحسب تعبير لإدوارد سعيد)، ويكفل التطابق بين الشعب والقضية والأرض للفلسطينيين، وينزع الاستعمار والأبارتهايد والتطرف الديني بالنسبة للإسرائيليين.
ثمة خطاب يعتبر أن حل "الدولة الواحدة" صعبا، لكن التجربة أثبتت أنه ليس أصعب من حل الدولتين، الذي طرح قبل نصف قرن
ثمة خطاب يعتبر أن حل "الدولة الواحدة" صعبا، لكن التجربة أثبتت أنه ليس أصعب من حل الدولتين، الذي طرح قبل نصف قرن، لأن الاستحالة في الحالين تتأتى من عدم توفر الإرادة الدولية والعربية للضغط على إسرائيل، وعدم تأسيس أي حل على رؤية متكاملة، وواضحة، لكل عناصر الصراع. لذا، يجدر عدم وضع خيار الدولة المستقلة مقابل حل الدولة الواحدة، وبالعكس، وملاحظة أن حل الدولة في الضفة والقطاع، إن توفرت الظروف له، سيبقي عناصر الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل مفتوحا، ببقاء قضية اللاجئين دون حل، وبقاء قضية فلسطينيي 48، كجزء من الشعب الفلسطيني، وبقاء إسرائيل على طبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية، لذا فإن الفلسطينيين معنيون، في سياق أي حل، بإبقاء الأفق مفتوحا لحل الدولة الواحدة، مستقبلا، باستخدام وسائل الكفاح السياسية، الذي يجمع بين الحقيقة والعدالة، وبين الحقوق الفردية والمدنية، والحقوق الجمعية والوطنية، بانتظار توفر العوامل المناسبة. ولأن حل الدولة الواحدة ربما يفترض وجود توسطات وتدرجات، منها قيام دولة مستقلة، أو ثنائية القومية، فلا أحد يمكن أن يتكهن بشكل الكيان الفلسطيني المقبل، أو شكل العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين، وفقا للمعطيات المحيطة وموازين القوى السائدة اليوم.