"ميثاق النساء" رواية حنين الصايغ الصادرة عن دار الآداب، تحملنا في عنوانها إلى الدين الدرزي، فليس "ميثاق النساء" سوى مقام النساء في الشرع الدرزي. مقام لا توافق عليه الروائية الشاعرة حق الموافقة، لكنها تظل تداوره وتحوم حوله الى أن تنتهي الرواية بانتقال أمل الراوية إلى موقع آخر سواه.
الرواية التي يصح اعتبارها، منذ البداية إلى النهاية، رواية درزية تتناول الموضوع الدرزي، الذي هو موضوع الرواية، بسعة وترسل بحيث أننا لا نزال على طول الرواية فيه، لا نزال فيه كنمط حياة وكنظام عيش. لا تخفي الرواية منذ البداية أنها تبدأ منه، وتبقى في داخله. لكنها رغم ملاحظتها النقدية له، رغم مقاربتها له بشيء من الحياد، الا أنها لا تثور عليه ولا تعنف في تناوله. أما بطلة الرواية فتمضي في محاولة متدرجة، شيئا فشيئا، تمضي في تحرر بطيء منه، وخروج متمهل عليه، فهي منذ البداية لا تشعر في نفسها القوة لتثور، بل هي لا تتصور مستقبلا آخر سواه، ولا تشعر أن في نفسها العزم على ذلك. حتى أنها حينما يتاح لها هذا المستقبل تبدو متفاجئة به، وتدخل اليه ببراءتها الأولى. إنها تكتشفه وتتجه اليه بنفس التدرج الذي وسم حياتها، والتحرر البطيء الذي زاولته، كأن الحياة هي التي تعطي أمل ما لم تكن قاصدة له تماما.
أمل هذه ابنة بيت درزي وحين نقول "درزيا" لا نعني أي بيت، إنها ابنة شيخ وعائلة مشايخ. نحن هنا الآن في عمق الحياة الدرزية، المشايخ يسوسون حياة صارمة وطهرانية، تملي عليهم، على سبيل المثال، أن لا يحضروا الولائم وان يكتفوا ببقايا الطعام. لا يحضرون ايضا الأعراس، ويقاصصون أنفسهم عند كل خروج على الأعراف. عليهم ، لدى كل هفوة، أن يخرجوا من دينهم وأن يعاودوا طلبه مرة بعد مرة. إنهم مجتمع قائم بذاته منغلق على نفسه، يحاسب على كل زلة، ايا كان وزنها، بقسوة. يكفي أن نعرف قصة الجد الذي، في ساعة غضب، نطق بالطلاق. بعد ذلك صار حراما عليه أن يكلم زوجته، أو أن يراها. اقتضى الأمر قسمة الحجرة التي تضمهما بحائط لا يتبادلان، من خلفه، كلاما، ولا يصح للواحد منهما النظر الى الآخر.
رواية الصايغ متينة في لغتها وفي حبكتها. إنها مكتوبة بذات الحرص وذات التأني اللذين طبعا الكتابة وغلبا على النص
نحن هكذا في مجتمع مغلق، لكن الفتيات اللواتي ولدن في هذا البيت لا يرتضين هذا الانغلاق، وان صعبت عليهن محاولة الخروج عليه، أو منه. نرمين تحتال حتى تتزوج الدرزي الوافد من أميركا، والذي ينبش الأهل في تاريخه ليقفوا عند جدة مسيحية له، الأمر الذي يشوب درزيته ويشكك فيها. حين ينتهي الأمر بقبول هذا الزواج، لا نلبث أن نرى البنت المتمردة في الأساس تنقلب إلى الدين، وتنتفض على زواجها من جاد الذي احتالت كثيرا ليصح لها الزواج منه. تنتفض عليه للسبب الذي يعتمده الأجداد، وهو نقص درزيته.
سنمضي في رواية حنين الصايغ في جو الشيوخ الدروز، وسنزور معها المقامات الدرزية التي هي أيضا منتزهات. أما أمل التي تزوجت سالم، لا لحب، فالحب هنا بعيد، ولكن لأنه وعدها بأن يسمح لها بتكملة علمها والدراسة في الجامعة الأميركية. أمر يقبله سالم على مضض، لكنه يلتزم به مقابل أن تنجب له، هي التي كانت ترفض ذلك لكنها تقع فيه من دون استعداد لتنجب ابنة اسمها لافت ويصدر من داخل الرواية "رحمة". أمل هذه لا تلبث أن تُنتقد على زواجها من رجل لا تحبه، الأمر الذي كان في أول الأمر مقبولا، إذ لا مكان للحب في مجتمع كهذا.
تكتشف أمل الحب وتتطلق من دون صعوبة، يمنحها سالم زوجها الطلاق على مضض، لكن هذا المنح يشير إلى انعتاق في الحياة الدرزية. ليس سالم متحررا، إنه في ذكوريته درزي نموذجي، لكن قبوله بذهاب أمل إلى الجامعة الأميركية، وصبره على عدم إنجابها، أمور توحي بأنه ليس تماما مثل جده أو أبيه. ثمة تغير متدرج علامته الأساسية الأولى هي اكتشاف أمل للحب، الذي لم يكن من قبل عنصرا في حياتها.
اكتشاف الحب هو بحد ذاته اختيار حياة أخرى ورؤية أخرى. هكذا تنتقل الى صفحة غير الصفحة الموروثة. الحب مقابل الدين، الخروج من دون ثورة، ولكن بتدرج، الى حياة ثانية. رواية الصايغ متينة في لغتها وفي حبكتها. إنها مكتوبة بذات الحرص وذات التأني اللذين طبعا الكتابة وغلبا على النص.