الواقع في خياله
ربما تقود النظرة الأولى إلى شعور بالخيبة. ذلك لأن رسوم أزنمان تبدو رسوما توضحية مبسطة أشبه بتلك الرسوم التي تُنشر في المجلات المصورة، كما أن السخرية التي هي عنصر أساس في عالم الرسامة قد أضفت مسحة كاريكاتورية على بعض اللوحات وبالأخص التخطيطات وهي عبارة عن رسوم مصغرة بالحبر "اسكيتشات" لم تكن الفنانة مضطرة لعرضها. لا لشيء إلا لأنها تشكل نقطة ضعف. فهي منفذة بطريقة سريعة، رسمتها الفنانة أثناء تنقلها بقطار الأنفاق أو جلوسها في الحدائق العامة أو نظرها من خلال نوافذ بيتها أو مرورها السريع بقاعات الدرس.
غير أن المرء حين يعاود النظر إلى عدد من اللوحات وليس كلها لا بد من أن يكتشف أن ما توصل إليه من خلال النظرة الأولى لم يكن صحيحا. أولا لأن الرسامة التي شارفت على الستين من عمرها تعرف جيدا قوانين الرسم، لذلك فإنها تسيطر على أدواتها الفنية. وثانيا لأن المشاهد التي تضمنها العالم الذي اخترعته الرسامة لا يمكن التعبير عنها عن طريق الأسلوب المفرط في واقعيته. تلك المشاهد هي مزيج من الواقع وخياله أو الخيال الذي تجسد واقعيا. يُخيل إلى العين أن ما تراه في اللوحة وإن لم تره في الواقع، فإنها تتوقع أن تراه في أية لحظة. وما الاستجابة لقوة الوهم الذي تنطوي عليه لوحات أزنمان إلا دليل على أن الرسامة نجحت في إقناع مشاهدي أعمالها بأن ما يراه هو صورة لتفاصيل خفية من حياة عاشها آخرون.
اقرأ أيضا: فهد خليف: الجمال سبيل التحرّر من التعصب والكره والخوف
إلهام رينوار
لا أعتقد أن هناك ضرورة لعرض مئة عمل فني للفنانة توزعت بين قاعات أربع تقع في طبقتين من المبنى بطرازه المعماري الغريب. أحيانا يخطئ منسقو المعارض وهم يسعون إلى أن يضفوا على الفنان الذي يحتفون به نوعا من الأهمية من خلال سعة المساحة التي تحتلها أعماله. وهم في حمى حماستهم لا ينتبهون إلى أنهم يسيئون إلى الفنان من خلال الزج بأعماله الضعيفة التي تقلّل من قيمة المعرض. وهو ما كانت نيكولا أزنمان ضحيته.
فالمرأة التي لم يسبق لها العرض في لندن بدت لكثرة ما عُرض من تجاربها الأولية لا تزال تتدرب في محترفات رسامي المجلات المصورة. وهو ما يخالف الحقيقة. لقد تحرّرت أزنمان منذ زمن بعيد من بداياتها وصارت ترسم بحنين مفرط بسخريته إلى الانطباعية حيث يحضر أوغست رينوار (1841ــ 1919) من خلال مشاهده في لوحاتها. لا تعيد أزنمان رسم المشاهد التي سبق لرينوار أن رسمها بطريقتها كما فعل بيكاسو مع رائعة ديلاكروا "نساء الجزائر" أو فرانسيس بيكون حين أعاد رسم البابا الذي رسمه فيلاسكز، لكنها تصنع مشهدا معاصرا يُذكر بذلك المشهد الذي رسمه رينوار من غير أن تستعير شيئا من مفرداته. ربما فكرت الفنانة، وهي رسامة ونحاتة في الوقت نفسه، في أن تكون وارثة لأجواء رينوار الاحتفالية. ذلك ما يؤكد أن متعتها وهي ترسم إنما هي انعكاس لرغبتها العميقة في الانتماء إلى تاريخ الرسم الرسمي.