منذ اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى"، تسيطر أجواء الحرب على المناطق الحدودية في الجنوب اللبناني؛ رصاص الاشتباكات وأصوات الانفجارات على جهتي الحدود لا تهدأ، كذلك حركة المسيّرات وطلعات الطيران الحربي والتجسسي والغارات الوهمية.
وعلى الرغم من أن الطرفين لم يخرقا "قواعد الاشتباك" المتبعة حتى الساعة، لكن عشرين يوما على هذه الحال كانت كفيلة بنزوح الآلاف من أهالي الجنوب نحو مناطق أكثر أمنا وأمانا.
القرى المتاخمة للحدود شهدت عمليات نزوح منذ اللحظة الأولى لبدء المناوشات، ثم تلتها قرى الخط الخلفي ثم توسعت دائرة النزوح لتشمل كل قرى جنوب نهر الليطاني.
وتوزع النازحون على المناطق اللبنانية تبعا للتركيبة الطائفية، فالشيعة نزحوا إلى مناطق شيعية والسنة استقبلتهم مناطق سنية والمسيحيون لاذوا بالمسيحيين. أما المناطق الدرزية فلم تشهد حتى الآن، حركة نزوح لافتة. وقد آثر القسم الأكبر من النازحين البقاء في مناطق شمال النهر بعد تطمينات عملت أوساط "حزب الله" على إشاعتها بأن المناطق الشمالية آمنة وأن السخونة ستقتصر، في الوقت الحالي، على المناطق الجنوبية فقط.
القرى الخلفية تشهد نزوحا مؤقتا وعودة مؤقتة على مدار اليوم، بحسب التطورات الأمنية
وتشير الإحصاءات المبدئية، إلى نزوح ما يتجاوز العشرين ألف مواطن على نحو دائم من القرى الأمامية، بالرغم من أنها لم تخلُ من سكانها تماما. فقد نزح الأطفال والنساء وكبار السن، وبقي الرجال يحرسون بيوتهم وأرزاقهم. ومع انطلاق موسم قطاف الزيتون عادت الحركة إلى تلك القرى نسبيا، حيث يأتي الأهالي نهارا ويغادرون مساء. أما القرى الخلفية فلا أرقام عن أعداد النازحين منها، لأنها تشهد نزوحا مؤقتا وعودة مؤقتة على مدار اليوم، بحسب التطورات الأمنية.
وتتحدث المعلومات عن نزوح أكثر من ستة آلاف شخص من قرى القطاع الغربي إلى مدينة صور ومنطقتها. أما العدد الأكبر من النازحين فمن قرى القطاعين الأوسط والشرقي، وقد نزحت غالبيتهم نحو مدينة النبطية ومنطقتها والأقلية نحو بيروت والجبل ومناطق أخرى.
نشطت المبادرات الأهلية، لإيواء النازحين غير الحزبيين، ولجأ المئات إلى منازل الأقارب أو إلى كنف عائلات مضيفة، بينما فضل آخرون اللجوء إلى مباني الثانويات والمهنيات الرسمية
على الصعيد الرسمي، تعمل حكومة تصريف الأعمال على إنجاز "خطة طوارئ" تحسبا لحرب قد تندلع في أي لحظة. وقد أقرت خطة إخلاء لعدد من المؤسسات الرسمية الحساسة، بناء على نصائح أتت من الخارج، فضلا عن وضع خطة طوارئ صحية، تتضمن متابعة جهوزية القطاع الصحي بشريا وخدماتيا ولوجستيا، وتأمين استمرارية الاستجابة تحت الضغط، وخطة أخرى لتأمين بدائل اتصال بالإنترنت في حال انقطاعه، وتجهيز المدارس الحكومية لإيواء النازحين.
أما على الصعيد الحزبي الضيق، فقد أنجز "حزب الله" خطة طوارئ سريعة ومحكمة استجابت فورا للأحداث الأمنية، وأبلغ بيئته الحاضنة، بالبقاء على أهبة الاستعداد لإخلاء ثانٍ وثالث في حال توسعت دائرة الحرب. وبين ليلة وضحاها، انتهى من استئجار مئات الشقق في مشاريع سكنية في مناطق جنوبية متفرقة، وتجهيزها بالوسائل الحياتية الضرورية، ووضعها في خدمة أنصاره وعائلات مقاتليه. وفي سياق مواز كانت مؤسساته الاجتماعية تعمل على إعداد لوائح بأسماء العائلات النازحة وأعداد أفرادها، وتشرف على نقلهم بهدوء من أماكن سكنهم إلى أماكن نزوحهم وتأمين احتياجاتهم.
قلة من الطائفة الشيعية، يشعرون بالحرج من الاحتماء بمجتمعات غير شيعية، ويرون أنها ليست على استعداد لاستقبالهم ولا حتى التعاطف معهم
لقد نشطت المبادرات الأهلية، لإيواء النازحين غير الحزبيين، ولجأ المئات إلى منازل الأقارب أو إلى كنف عائلات مضيفة، بينما فضل آخرون اللجوء إلى مباني الثانويات والمهنيات الرسمية، معتمدين على مساعدات تأتيهم من فاعلي الخير وبعض منظمات المجتمع المدني. ومن يملك المال الكافي للاستئجار، اختار الإقامة في مناطق بعيدة كليا عن البؤر الساخنة.
وفي جولة على عدد من القرى الحدودية، يتضح حجم الخوف، الذي يعيشه الأهالي من احتمال اندلاع حرب جديدة مع إسرائيل، فذاكرتهم لم تشفَ بعد مما تركته حرب يوليو/تموز 2006 من قتل ودمار وتشريد وعودة إلى الصفر في الأرزاق والأموال، وهم يعلمون أن جنوب لبنان لا يمتلك الحد الأدنى من مقومات الصمود، وأن الدولة تقف متفرجة. هذا إضافة إلى المشاهد المروعة الآتية من غزة والتي تظهر، من جهة، مدى ضراوة القصف الإسرائيلي وأعداد ضحاياه المدنيين. ومن جهة أخرى، نوعية الصواريخ الحديثة المستخدمة في القصف.
مهانة اللجوء
بعض الأهالي يرفضون فكرة النزوح، ويعتبرونه ذلا، ويفضلون الموت في بيوتهم على مهانة اللجوء إلى أي كان أو أي مكان. قلة من الطائفة الشيعية، يشعرون بالحرج من الاحتماء بمجتمعات غير شيعية، ويرون أنها ليست على استعداد لاستقبالهم ولا حتى التعاطف معهم، هذا إن لم تحملهم مسؤولية جر البلد إلى الجحيم. ذلك أن "حزب الله" لعب دورا خبيثا، كما يقولون، في فصل الطائفة الشيعية عن سياقها الوطني، "حتى صرنا متهمين في نقاء هويتنا وانتمائنا، سواء كنا من مؤيديه أم من معارضيه"، إضافة إلى سنوات الخلاف السياسي المديدة والانعزال المناطقي، التي عمقت الهوة بين اللبنانيين، وأبعدتهم عن بعضهم بعضا، حتى صاروا أشبه بالأعداء.
ما يدعم هذه الهواجس، انتشار عبارات التشفي والشماتة على وسائل التواصل الاجتماعي. فهناك ناشطون يدعون أن اللبنانيين غير مهتمين بما يصيب أهل الجنوب، من أنصار الحزب طبعا، ولن يجدوا من يتعاطف معهم إذا اندلعت الحرب، لأنهم باعوا أنفسهم ووطنهم لإيران، وليتحملوا وحدهم نتيجة أعمالهم.
في هذه الأثناء، برز اهتمام لافت من رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط الذي أصدر أمرا باستقبال النازحين في مناطق الجبل، وبرز كذلك موقف سياسي متقدم ليمنى بشير الجميل، التي أكدت في تغريدة على موقع "إكس" حرصها على "عدم إقحام لبنان في حرب لا دخل له فيها... لكن إذا فرضت سوف نقف إلى جانب كل لبناني مهما كانت طائفته أو رأيه أو انتماؤه".
بالمحصلة، لا أحد يعرف ماذا تخبئ الأيام المقبلة للبنانيين، سوى من بيده قرار الحرب والسلم، وحتى ذلك اليوم ستبقى حياتهم معلقة على حبال الخوف والانتظار.