هذه حرب ليست ككل الحروب السابقة، إنّها، كما تبدو لي، خلاصة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو العربي الإسرائيلي، وهي كمثل الحروب الكبرى لا يمكنها أن تعود مرة أخرى، بفظاعتها ووحشيتها غير الإنسانية.
لقد بدت منذ يوم اندلاعها فضيحة كشفت زيف كلّ القيم التي كُرّست في التاريخ الحديث، قيم الحرّية والعدالة والمساواة والديمقراطية، فهي إذ جاءت كردّ على هجوم جماعة مسلّحة أدانه البعض وبرّره البعض الآخر، مضت إلى ما لا يمكن أن يقبله عقل أو إنسان.
فقد راح قائدها نتنياهو يعِد العالم بكل تبجح بأنه سيقدم على عمل "سوف يتردّد صداه لأجيال عديدة"، وسط ترحيب قادة العالم الغربي "المتحضّر" الذي قال نتنياهو إن إسرائيل تنتمي إليه. ولم يقل له أحد من هؤلاء القادة إن بلدانهم التي شهدت حركات التنوير العظيمة والتحولات الفكرية الهائلة لا تتفق مع مرجعياته الأسطورية وتنبؤاته الدينية، وعلى العكس من ذلك اعتبروا أن فعل المقاومة لم يكن من قبل أناس عانوا الاحتلال والحصار والقتل والتهجير وزحف المستوطنين وإنما جاء من قبل أشخاص يرغبون بقتل اليهود ليس إلا.
وبذريعة حق الدفاع عن النفس كان التصريح بممارسة القتل الجماعي من قبل دولة توصف قلعة للديمقراطية وسط محيط من الاستبداد.
قلت إن الحرب كشفت زيف الادعاءات الكبرى وقد نُشر الكثير من الأخبار عن فصل أوروبيين وأميركيين من أعمالهم ومؤسساتهم الصحافية لمجرّد أنهم احتجوا على الحرب ضد غزّة، أو عملوا إشارات غضب لمنشورات تكشف مآسي هذه الحرب وقتلها آلاف الأطفال والمدنيين الفلسطينيين. هناك بلدان اتخذت مواقف مخزية بمنع المظاهرات المطالبة بإيقاف الحرب، كما أن وسائط الاتصال الاجتماعي مثل "فيسبوك" لم تتحرّج من "فلترة" كل المفردات والكلمات التي تتناول بالنقد الحرب على غزّة فمنعتها أو أعاقت انتشارها وحدّت منه في أحسن الأحوال.
هناك بلدان اتخذت مواقف مخزية بمنع المظاهرات المطالبة بإيقاف الحرب، كما أن وسائط الاتصال الاجتماعي مثل "فيسبوك" لم تتحرّج من "فلترة" كل المفردات والكلمات التي تتناول بالنقد الحرب على غزّة فمنعتها أو أعاقت انتشارها
هكذا، مع انبعاث شعارات "الأرض الموعودة" والنبوءات بسحق الآخرين، واتساع زحف المستوطنات المجدّدة لذاكرة النكبة الأليمة وأوهام القوّة والنصر الأبدي وخواء العقل الذي كان رجاء وصار مراوغا ومنحازا لمصالح حامليه، استيقظ الفلسطيني المقهور الذي رأى أن لا فائدة من حياة هكذا شكلها، فقدّم نفسه شهيدا، يتسابق على الموت تسابقه على الحياة. لقد رضي الفلسطيني بمشروع دولة وحدود ارتضاها العالم، لكن الزّحف اليومي داخل هذه الحدود لم يتوقف. نعم، هناك من يستنكر، لكنّه لا يعمل أكثر من ذلك، ثم يعود لدعم السلطات التي تخطّط لهذا التوسع الاستيطاني والاقصائي. هذا العالم المتحذلق في سبيل مصالحه يشتاط غضبا في الأخير حين يرى المقهور قد استيقظ ممزِّقا كل التعاليم المزيّفة، فلا يدين ويستنكر عمل المقهور كما يفعل عادة مع الطرف الآخر وإنّما يدعو لمحوه من الأرض، لإبادته، نعم إبادته وليس معاقبته أو قراءة جوهر مشكلته ومسبباتها.
لهذا، فإن الدعوة المخففة إلى تفكيك "حماس" لا تبدو لي ممكنة قبل أن تفكّك إسرائيل مستوطناتها في كل الأراضي المحتلّة ما بعد 1967 وهي حدود صارت مرسومة بقرارات أممية ومن الصعب تجاوزها تحت أي أوهام. ولا أظن أن الدولة التي تراجعت عن أحلام مؤسسيها العلمانية وانحدرت نحو خطاب ديني متطرّف يحق لها وصف الفصائل الفلسطينية بالمتطرفين و"الدواعش" وهي تعرف أنّ القضيّة الفلسطينية لم تعد محصورة بالخطاب الفلسطيني أو الديني أو القومي العربي وإنّما صارت قضيّة إنسانية أممية، يدلّ على هذه المكانة خروج الناس بحشود كثيرة في بلدان عديدة بما فيها دول أوروبا أو الغرب التي منعت المظاهرات، بمؤشر يقول إنّ الضمير الإنساني ما زال متيقظا ولا يتأثر بالدعايات العابرة.
وأظن أن بالإمكان أن توجّه النداءات لهؤلاء أصحاب الضمير الإنساني من أجل العمل على إيقاف الحرب البشعة ضد المدنيين العزّل والعمل على إيجاد حل لعدم تكرارها بأي شكل، وأن يتنادى الفلسطينيون فيما بينهم لإيجاد صوت واحد يمثلهم بدلا من هذا التشتت بين الضفة وغزّة، وبين "الجهاد" و"حماس"، وبين "حماس الداخل" و"حماس الخارج"... إلخ فالمقاومة قد تكون مشروعة في وجه المحتل على أي نحو كان لكنّها تظل عبثية وغير مجدية إذا غاب عنها المشروع الوطني وصارت أداة لمصالح تستهدف إشعال الصراع ودوامه والمتاجرة به.