تضع الحملة العسكرية الشرسة التي تشنّها إسرائيل ضدّ قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وما نتج عنها من خسائر ضخمة في أرواح المدنيين والأبرياء، العالم برمته أمام ضميره ومسؤوليته الأخلاقية، مثلما تجعل منظومة القيم التي راكمها الإنسان ولطالما تفاخر بها عن الحقوق المشروعة، وقدسيّة الحياة، وحماية الطفولة، والتقدّم الحضاري، محطّ محاكمة ومراجعة عسيرة.
فالصور المروعة التي تصل كل لحظة من غزة، جعلتنا جميعا ضحايا ما يحدث. حتى من نجا، إن كان ثمة من نجاة في الحرب، ليس بناج تماما. امتحان الإنسانية الدائر هذه الأيام يتبدّى ثقبا أسود يبتلع العالم إلى هوة سحيقة مظلمة.
يعرف العراقيّ، أكثر من غيره، معنى القصف المتصل الذي لا هدنة فيه ولا استراحة. يعرف معنى السحق تحت آلة عسكرية متجبرة جن جنونها، لا تبالي بحياة طفل أو امرأة أو شيخ. فقد عايش العراقيون قصف المستشفيات والملاجئ والبيوت، وكيف يتحيّنون اللحظة بين موت وموت فقط ليدفنوا أحبتهم أو يلقوا عليهم النظرة الأخيرة. كما يعرفون الغرق بالظلمة شهورا بلا كهرباء، مثلما يعرفون حرب قطع المياه واللجوء الى الشطآن للشرب، وهو ما جعل استجابتهم مع أحداث غزة واسعة عميقة.