رحيل ناصر الغنيم

رحيل ناصر الغنيم

اتفقت كلمات كل الأصدقاء على أن رحيل الأخ العزيز الصحفي السعودي ناصر الغنيم كان صادما ومفاجئا مع أنه حدث بهدوء كهدوء ناصر وتصالحه مع الحياة. رحل بلا ضجيج، مع أننا نراه رحيلا مبكرا. ربما يرجع سبب هذا الشعور الذي تقاسمه الأصحاب إلى أن الموت قد عوّدنا على علامات يرسلها تكون بمثابة التنبيه عن قرب رحيل شخص محبوب لدينا، كأن يكون مريضا أو مسنّا أو معتزلا الحياة نائيا عنها، وقد يعطينا رسائل وتنبيهات عن قرب رحيلنا نحن.

لكن ناصر لم يتصف بأي من هذه الصفات، صفات المغادرين، فلم يكن مسنّا، ولا مريضا – في ما أعرف - بل كان حاضرا فاعلا ممتلئا بالطاقة، يمارس مهنة المتاعب من خلال عمله الإداري في جريدة إيلاف بكل شغف، ويحضر المؤتمرات والمناشط الثقافية والفكرية في داخل المملكة وخارجها ويشارك في كل الأحاديث بحماسة. وإذا كان موضوع الحديث لا يثير اهتمامه فهو يملك القدرة على الإصغاء ومشاركتك حديثك إن رآك قد تحمّست له. هو يملك هذين اللباقة والكرم. وكان على صلة بشريحة كبيرة من الأصدقاء الذين لم يغب عنهم يوما. قبل وفاته بيوم كنت أتحدّث وإياه، ونفاضل بين من يكتب باسمه الصريح ومن يكتب باسم مستعار، وعن مزايا كل واحد من الخيارين. وقبل وفاته بساعتين كان يتحدث بالهاتف مع صديق ثالث هو الأستاذ المثقف محمد الناصر السديري الذي لطالما جمعنا في زيارات لا تنسى لمحافظة الغاط الجميلة، واستمتعنا بالأحاديث سوية.

إذا كنت لم تقترب من ناصر الغنيم أو لم تعرفه، فلا تسل عن دماثة الخلق وطيب المعشر والحلم والأناة. لم أره غاضبا قط، بل كان يملك قدرة خاصة على تسكين غضب الآخرين وتسهيل الأمور التي تصعب في عيونهم

إذا كنت لم تقترب من ناصر الغنيم أو لم تعرفه، فلا تسل عن دماثة الخلق وطيب المعشر والحلم والأناة. لم أره غاضبا قط، بل كان يملك قدرة خاصة على تسكين غضب الآخرين وتسهيل الأمور التي تصعب في عيونهم. ويبدو لي أنه كان متصالحا مع الموت. أقول هذا لأنه لم يكن يعيش غضبا من أي نوع، بل ما إن تتكلم بما يقلقك حتى تنطلق ضحكته المعهودة المواسية بحيث يرتبك القلق فلا تشعر برغبة في إكمال ما بدأت. مثل هذا النوع من الناس، لا بد أنهم قد حسموا أمورهم وتصالحوا مع الموت.

موت الأصدقاء لا بد أن يذكرك بموتك الشخصي، حتى وإن كان ثمة فارق في العمر. والزمن، كما يقول مارتن هايدغر، بالنسبة إلى البشر، ينتهي بالموت. لذلك، إذا أردت أن تفهم ما يعنيه أن تكون إنسانا حقيقيا، فمن الضروري أن تتصور حياتك باستمرار انطلاقا من أفق موتك. هذا ما يسميه هايدجر "الوجود المواجه للموت"وإذا كان وجودنا محدودا، فلا يمكن لنا أن نصنع حياة بشرية أصيلة حقيقية إلا بعد أن نواجه محدوديتنا بشجاعة وقبول ورضا، وأن نخلق معنى لحقيقة موتنا.

هذا الفيلسوف الألماني الحديث ينطلق من حكمة قديمة تقول إن "الفلسفة هي أن تتعلم كيف تموت". وحينما يتحدث عن الوجود المواجه للموت، فإنه يقرر أولا وقبل كل شيء، أن الموت غير علائقي بمعنى أن الإنسان حين يقف في وجه الموت يقطع كل ما يربطه بالآخرين، ولا يمكن أن تجرّب الموت من خلال موت الآخرين مهما بلغ حزنك عليهم. فقط ستعرف وتعيش تجربة الموت، عندما تموت أنت.

font change