لكن المتوافدين إلى المساجد نهارات الجمعة جمهور آخر ومجموعات أخرى يختلف تكوينها الثقافي وهدفها عن مجموعات الشبان السوريين من متظاهري الأحد في ساحة هيرمان بلاتز البرلينية. فجمهور مساجد المدن الألمانية نهارات الجمعة أكبر وأكثف عددا ومن الأجيال كافة. وللشبان فيه حضورهم المشهود، ويغيب عنه الألمان والنساء طبعا، على ما رأيتُ في مسجد مدينة كولن مثلا. عدا أن متظاهري الأحد البرليني تختلف روابطهم الشبابية الفردية والجمعية المحدثة عن روابط جمهور المساجد الأهلي.
من مطاعم الشارع
أما الحشود التي تؤم "شارع العرب" البرليني نهارات الأحد خصوصا - وهو متصل بساحة التظاهرة وقريب منها - فتجمع الفئات والأجيال كافة. لكن مشهدها يغلب عليه العائلي، مثل جمهور المساجد. والتظاهرة الشبابية السورية ربما تقصّدت السير في الاتجاه المعاكس لذاك الشارع لتقول أو ليقول متظاهروها إنهم يريدون تبليغ رسالتهم إلى المواطنين الألمان، لا إلى أهل "شارع العرب" الذي لا يرغب كثيرون من المتظاهرين ارتياده إلا في ما ندر، ولحاجات التسوق من متاجره سلعا لا تتوافر في المتاجر الكبرى الألمانية، على ما أشار محدثي اللبناني وصديقه السوري في المقهى الملحق بالمقبرة البرلينية القديمة.
شوارع في شارع
العابر في "شارع العرب" البرليني في ظهيرة أحد صيفي مشمس قليلا، تطالعه على رصيف الشارع طاولات صُفت عليها صحون الفول المدمس والحمص والفتّة والفلافل، وسواها من المتبلات والمعجنات، وإلى جانبها قناني مرطبات وأكواب لبن العيران. وتتحلق حول الطاولات عائلات من الأعمار كافة، أو جمع من أصدقاء شبان، بعضها من الجنسين. لكن الحلقات العائلية والأهلية هي الغالبة.
الأصوات واللهجات التي يسمعها العابر من هذه الجموع خليط من السورية واللبنانية والعراقية، والمغاربية أحيانا. ولا تخلو الحال من ألمان وأفارقة سود البشرة. واللغتان الإنكليزية والألمانية حاضرتان أيضا في كثافة الأصوات وضجيجها في فضاء الشارع.
بين المطاعم والمقاهي التي تقدّم النراجيل (شيشا بار في ألمانيا وهولندا) في الشارع، هناك محال حلويات شرقية. محال ألبسة "شرعية" جاهزة وفساتين أعراس. محال أوانٍ منزلية غير أوروبية. محال مجوهرات. محامص للمكسرات. مخابز أصناف من الخبز العربي، ومخابز خاصة ببعض المطاعم للمشويات وأطباق الطبخ الحلبي والشامي والتركي والمازة اللبنانية، لكن من دون تقديم العرق وسواه من المشروبات الكحولية... ولا تخلو الحال من مطعم لأطباق المندي اليمنية. وكؤوس الشاي تكثر على الطاولات. ومحال البقالة والمعلبات واللحوم "الحلال" كثيرة بدورها، ويكثر فيها المتسوقون.
إنه عالم نهاري للأكل والمشتريات على أنواعها. وأسماء المطاعم والمتاجر معظمها عربية، وبعضها مترجم إلى الألمانية أو الإنكليزية. وأسماء مثل دمشق، حلب، بيروت، عزام، الصفا، لبنان، إسراء، برلين، الأندلس، أدونيس... حاضرة على لافتات المطاعم والمقاهي والمتاجر. وتتخلّل الأصوات واللهجات اللاغطة في الشارع، جُمل وألحان من أغانٍ عربية كثيرة ومتنوعة.
يمتد الشارع بطول يزيد عن 2 كلم. وفي بدايته لجهة ساحة هيرمان بلاتز، تتكاثف الحركة والزحام. وهذان يهدآن نسبيا كلما ابتعدنا من الساحة. وكشبان التظاهرة من اليساريين والعلمانيين السوريين وبعض أصدقائهم العرب والألمان، يمكن القول إن جموعا من الأهل والعائلات من الجاليات العربية، والسورية خصوصا، تحتشد بكثافة في عطلة نهار الأحد في هذا الشارع البرليني. وهم يتوافدون إلى شارعهم الأهلي والتجاري الأليف، ومعهم أشخاص من الألمان، وقد يكونون أصدقاءهم أو من معارفهم. لكن هناك أيضا حضور ألماني شبابي في بعض المطاعم والمقاهي. ويمكن القول إن أخلاطا من جهات العالم حاضرة في هذا الزحام الفوضوي الحر الكثيف.
هذا الخليط البشري يصنعه كلٌ من "التجارة والترفيه والأعمال الإثنية"، والذائقة ونمط العيش "المستوردان" من مدن شرق أوسطية كثيرة: دمشق، حلب، بغداد، بيروت، طرابلس، إسطنبول، القاهرة، وصولا إلى مراكش المغربية. ولربما لا ينقص "شارع العرب" البرليني سوى ضروب من ألعاب الخفة التراثية والشعبية - إلى جانب ما فيه من أنواع المطاعم والمآكل ومقاهي النراجيل ومتاجر السلع الشرقية واللحوم الخضر والحبوب المناسبة للمطبخ الشرق أوسطي - كي يصير نسخة طبق الأصل تقريبا عن ساحة جامعة الفنا المراكشية الشهيرة سياحيا، والتي صنّفتها منظمة اليونسكو وأدرجتها سنة 2001 على قائمة التراث الإنساني العالمي.
كثيرة هي المدن الألمانية التي تحوي شوارع مماثلة لـ"شارع العرب" البرليني، لكن أصغر منه وحسب حجم كل مدينة وجالياتها المهاجرة والمقيمة فيها. ففي مدينة كولن جنوب ألمانيا أنشأت الجاليتان التركية والكردية شارعا للتجارة والمطاعم والمقاهي الإثنية. وحضور السوريين قبل سنوات بدأ يوسع الشارع والحركة التجارية فيه. والداخل إلى الكبرى من هذه المتاجر - التركية منها هي الأعرق والأسبق زمنا من اللبنانية والسورية - سرعان ما يتصور أنها خليط من متاجر "مال قبان" في الأسواق التقليدية القديمة في مدن المشرق، ومن السوبرماركت الحديث. وهذا ما تظهره أنماط توضيب السلع التي تنطوي على شيء من الفوضى والصخب المدروسين، الموازيين لانعدام صمت الزبائن والمتبضعين أثناء تجوالهم في هذه المتاجر. فهم غالبا ما يتبادلون مع باعتها الموظفين أو أصحابها كلاما - بالتركية أو الكردية أو العربية - على هامش البيع والشراء وأنواع السلع. وهو كلام ينم عن إلفة وأريحية ورغبة في كسر الصمت الذي يسود أثناء التبضّع في السوبر ماركت. كأن الطرفين في إقبالهما على هذا النوع من الكلام يستبدلان به عادة المساومة في الأسواق التقليدية القديمة التي وصفها الكاتب والروائي بالألمانية الياس كانيتي (1905- 1994) في كتابه "أصوات مراكش" الذي وصف فيه "جماليات" المساومة في الأسواق المراكشية.
بين التحرّش والمافيات وجماليات الاختلاط
المادة الصحافية الواسعة في القسم العربي في إحدى الوكالات الإعلامية الألمانية (دويتشه فيله، DW، الشبيهة بـ BBCاللندنية) عن "شارع العرب" البرليني، تركّز اهتمامها على طابع "الاختلاط الإثني، التجاري والثقافي والفني" فيه. وهي تسميه "بيروت الصغيرة" و"سوريا الصغيرة"، وتعرض التغيُّرات التي طرأت عليه منذ الثمانينات حتى اليوم. أما حي كروزبرغ القريب من "شارع العرب"، والذي يكثر فيه الأتراك منذ الستينات، فتسميه الوكالة عينها "اسطنبول الصغيرة" أو "الحي التركي" في متابعاتها الصحافية.
جمعية المبرات الخيرية
وإلى جانب نقلها بعضا من الحوادث والتوترات "القومية" و"الطائفية" والنزاعات التنافسية التجارية وشبه "المافيوية" بين قدامى التجار اللبنانيين الشيعة والسوريين الجدد - وهذه كلها تلابس الحياة اليومية في الشارع والحي هذين - تتوسع تحقيقات وكالة (DW) الصحافية في وصف "جماليات" الاختلاط والتعايش فيهما. وهذا على خلاف المقالات والتعليقات التي يكتبها عن "شارع العرب" كتّاب/ كاتبات عرب وسوريون علمانيون ويساريون على وجه الخصوص، وهم مقيمون في برلين أو عواصم أوروبية أخرى. وهؤلاء يبرزون الوجه السلبي أو السيئ للشارع ويستنكرونه، بوصفه "شارع التحرش اللفظي بالنساء العربيات"، وزجر غير المحجّبات منهن كي يتحجّبن.