شارع العرب في برلين... الشرق الأوسط في كيلومترينhttps://www.majalla.com/node/303341/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%85%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%86
برلين: بعد لقائي صديقا لبنانيا يقيم منذ 7 سنوات في برلين - وعرّفني إلى صديقه السوري الشاب في مقهى ملحق بمقبرة برلينية قديمة وقريبة من إحدى ساحات برلين الرئيسية (هيرمان بلاتز) المتصلة بجادة زونين آليه (طريق الشمس بالألمانية) المعروفة بـ "شارع العرب" - غادرنا المقهى متجهين إلى الساحة، فسمعنا أصوات هتافات باللغة الألمانية، ويُستشفُّ أنها عربية الإيقاع والتقطيع الصوتي.
كانت صبيحة نهار أحد صيفي مشمس. والشاب السوري الذي وصل إلى ألمانيا لاجئا قبل نحو سنتين، أخبرنا أن شبانا سوريين ناشطين في برلين وجهوا (عبر صفحة على فيسبوك) دعوة عامة للقاء والتجمع في ساحة هيرمان بلاتز، والسير في تظاهرة ضد نظام بشار الأسد، ودعما للاحتجاجات في السويداء السورية، وللتململ في بعض مدن الساحل السوري.
من مسافة نحو 200 متر، بدا مشهد المحتجين شبابيا أوروبيا بملامح شرق أوسطية، كتلك التي كنتُ رأيتها أمام مدينة السكن الطلابي الجامعي الدولية في باريس النصف الأول من الثمانينات، نصرة لفلسطين والفلسطينيين، وسواها الإيرانية ضد نظام الملالي في إيران الإسلامية الخمينية.
قد تنطوي هذه الرغبة على حاجة عاطفية ووجدانية، لا تستمد بواعثها من ماضيهم السوري وحده، بل من حاضرهم الألماني وحياتهم الراهنة في ألمانيا. وهذا ما تتيحه الفسحة أو العطلة في نهايات الأسبوع
قال الصديق اللبناني إن تظاهرة السوريين الشبابية غالبا ما تكون "نشاطا أحديا صباحيا"، إذا توافرت المناسبة، هنا في برلين أو في سوريا وفي ديار اللجوء السوري الكبير في تركيا ولبنان. وافقه على ذلك صديقه السوري الشاب قائلا إنه للمرة الثانية أو الثالثة يشارك أيام الآحاد في تجمعات سورية احتجاجية في ساحة هيرمان بلاتز. كانوا عشرات يغلب عليهم السوريون الشبان، وإلى جانبهم قلة من الشابات والشبان الألمان. ولا تخو الحال من بعض المغاربة والأفارقة السود. الكوفية الفلسطينية التي أمست شارة شبابية عالمية يسارية منفصلة عن قضية فلسطين، حاضرة على أكتاف شبان وشابات. والأكثر حضورا من الكوفية هو علم الثورة السورية الذي كان يلف أجساد كثرة من المتظاهرين والمتظاهرات.
واقع مغاير
على أطراف التجمع في الساحة شبان يوزعون نسخا من بيان باللغة الألمانية. وبها كان شاب يهتف من مكبر صوت يدويّ يحمله وافقا قبالة المتظاهرين على منصة حجرية، هي قاعدة نصب وسط الساحة.
هذه كانت حال متظاهري باريس الثمانينات الشرق أوسطيين، لكنهم كانو يهتفون بالفرنسية والعربية آنذاك، قلت للصديق اللبناني والشاب السوري. لكن كلاهما لاحظ معترضا: الأرجح أن تظاهرات باريس تلك كان تنطوي على إرثٍ وثأر استعماريين بين أولئك المتظاهرين العرب وفرنسا. وهذا ما تخلو منه تماما التظاهرة السورية في برلين. بل على العكس، غالبا ما يُكِنُّ السوريون مشاعر امتنان وودّ لألمانيا والألمان. فإضافة إلى غياب التاريخ والإرث الاستعماريين الألمانيين في الشرق الأوسط، وحدها ألمانيا من الدول الأوروبية الكبرى شرّعت حدودها للاجئين السوريين في موجاتهم الجماعية سنة 2015.
وسرعان ما تحرّك المتظاهرون سائرين من الساحة في الاتجاه المعاكس لجادة زونين آليه أو "شارع العرب" القريب. من حركاتهم وأشكالهم وقيافتهم، ومن العبارات التي تبادلناها مع بعضهم بالعربية، بدا أن المتظاهرين السوريين الأحديين يغلب بينهم اليساريون والعلمانيون. وكثرة منهم تجيد الألمانية أو صارت تستطيع التكلم بها في الحياة اليومية. وبينهم طلاب جامعات يتلقون تعليمهم بالألمانية. والأرجح أن نشاطهم الاحتجاجي أو الإعلامي والإعلاني الأحدي، ينطوي أيضا على رغباتهم في اللقاء والتجمع وتجديد صلتهم بسوريا وقضيتها وفي ما بينهم، هنا في برلين.
وقد تنطوي هذه الرغبة على حاجة عاطفية ووجدانية، لا تستمد بواعثها من ماضيهم السوري وحده، بل من حاضرهم الألماني وحياتهم الراهنة في ألمانيا. وهذا ما تتيحه الفسحة أو العطلة في نهايات الأسبوع. ومثله كان يحدث في لقاءات كتاب وصحافيين وناشطين لبنانيين أصدقاء في ساحة الشهداء ببيروت، دعما للثورة السورية واحتجاجا على مشاركة حزب الله في الحرب السورية وفي قتل السوريين إلى جانب نظام الأسد. وآنذاك كان كثيرون من شبان الثورة السورية السلمية قد فروا إلى بيروت، كمحطة أولى لهجرتهم أو لجوئهم إلى دول أوروبية كثيرة، وفي طليعتها ألمانيا. والتظاهرة الشبابية الأحدية البرلينية اليوم تنتمي إلى ذاك الصنف من التظاهرات التي يمكن تسميتها "تذكيرية وعاطفية"، للقول إن المسألة السورية لا تزال القاسم المشترك في لقاءات وتجمعات سوريين عامة في برلين، وربما في سواها من المدن الألمانية.
شبان التظاهرات وشبان المساجد
وفي وجه من الوجوه قد تشبه الحاجة إلى هذه اللقاءات والتجمّعات (التواصل والتعارف وتجديد الصلات والعلاقات بين أفراد وجماعات وفئات من الجاليات المهاجرة، والتذكير بقضية وبالانتماء إلى بلد أو هوية) تلك التي تحدث في مساجد مدن وبلدات ألمانية ظهيرات الجمعة من كل أسبوع.
هذه وسواها من التجارات والأعمال في "شوارع العرب" بالمدن الألمانية تسيطر عليها "مافيات" تعمل في الظلام أو في الخفاء، وغالبا ما يتحول تنافسها التجاري إلى انقسامات وولاءات قومية وإثنية وطائفية
لكن المتوافدين إلى المساجد نهارات الجمعة جمهور آخر ومجموعات أخرى يختلف تكوينها الثقافي وهدفها عن مجموعات الشبان السوريين من متظاهري الأحد في ساحة هيرمان بلاتز البرلينية. فجمهور مساجد المدن الألمانية نهارات الجمعة أكبر وأكثف عددا ومن الأجيال كافة. وللشبان فيه حضورهم المشهود، ويغيب عنه الألمان والنساء طبعا، على ما رأيتُ في مسجد مدينة كولن مثلا. عدا أن متظاهري الأحد البرليني تختلف روابطهم الشبابية الفردية والجمعية المحدثة عن روابط جمهور المساجد الأهلي.
أما الحشود التي تؤم "شارع العرب" البرليني نهارات الأحد خصوصا - وهو متصل بساحة التظاهرة وقريب منها - فتجمع الفئات والأجيال كافة. لكن مشهدها يغلب عليه العائلي، مثل جمهور المساجد. والتظاهرة الشبابية السورية ربما تقصّدت السير في الاتجاه المعاكس لذاك الشارع لتقول أو ليقول متظاهروها إنهم يريدون تبليغ رسالتهم إلى المواطنين الألمان، لا إلى أهل "شارع العرب" الذي لا يرغب كثيرون من المتظاهرين ارتياده إلا في ما ندر، ولحاجات التسوق من متاجره سلعا لا تتوافر في المتاجر الكبرى الألمانية، على ما أشار محدثي اللبناني وصديقه السوري في المقهى الملحق بالمقبرة البرلينية القديمة.
شوارع في شارع
العابر في "شارع العرب" البرليني في ظهيرة أحد صيفي مشمس قليلا، تطالعه على رصيف الشارع طاولات صُفت عليها صحون الفول المدمس والحمص والفتّة والفلافل، وسواها من المتبلات والمعجنات، وإلى جانبها قناني مرطبات وأكواب لبن العيران. وتتحلق حول الطاولات عائلات من الأعمار كافة، أو جمع من أصدقاء شبان، بعضها من الجنسين. لكن الحلقات العائلية والأهلية هي الغالبة.
الأصوات واللهجات التي يسمعها العابر من هذه الجموع خليط من السورية واللبنانية والعراقية، والمغاربية أحيانا. ولا تخلو الحال من ألمان وأفارقة سود البشرة. واللغتان الإنكليزية والألمانية حاضرتان أيضا في كثافة الأصوات وضجيجها في فضاء الشارع.
بين المطاعم والمقاهي التي تقدّم النراجيل (شيشا بار في ألمانيا وهولندا) في الشارع، هناك محال حلويات شرقية. محال ألبسة "شرعية" جاهزة وفساتين أعراس. محال أوانٍ منزلية غير أوروبية. محال مجوهرات. محامص للمكسرات. مخابز أصناف من الخبز العربي، ومخابز خاصة ببعض المطاعم للمشويات وأطباق الطبخ الحلبي والشامي والتركي والمازة اللبنانية، لكن من دون تقديم العرق وسواه من المشروبات الكحولية... ولا تخلو الحال من مطعم لأطباق المندي اليمنية. وكؤوس الشاي تكثر على الطاولات. ومحال البقالة والمعلبات واللحوم "الحلال" كثيرة بدورها، ويكثر فيها المتسوقون.
إنه عالم نهاري للأكل والمشتريات على أنواعها. وأسماء المطاعم والمتاجر معظمها عربية، وبعضها مترجم إلى الألمانية أو الإنكليزية. وأسماء مثل دمشق، حلب، بيروت، عزام، الصفا، لبنان، إسراء، برلين، الأندلس، أدونيس... حاضرة على لافتات المطاعم والمقاهي والمتاجر. وتتخلّل الأصوات واللهجات اللاغطة في الشارع، جُمل وألحان من أغانٍ عربية كثيرة ومتنوعة.
يمتد الشارع بطول يزيد عن 2 كلم. وفي بدايته لجهة ساحة هيرمان بلاتز، تتكاثف الحركة والزحام. وهذان يهدآن نسبيا كلما ابتعدنا من الساحة. وكشبان التظاهرة من اليساريين والعلمانيين السوريين وبعض أصدقائهم العرب والألمان، يمكن القول إن جموعا من الأهل والعائلات من الجاليات العربية، والسورية خصوصا، تحتشد بكثافة في عطلة نهار الأحد في هذا الشارع البرليني. وهم يتوافدون إلى شارعهم الأهلي والتجاري الأليف، ومعهم أشخاص من الألمان، وقد يكونون أصدقاءهم أو من معارفهم. لكن هناك أيضا حضور ألماني شبابي في بعض المطاعم والمقاهي. ويمكن القول إن أخلاطا من جهات العالم حاضرة في هذا الزحام الفوضوي الحر الكثيف.
هذا الخليط البشري يصنعه كلٌ من "التجارة والترفيه والأعمال الإثنية"، والذائقة ونمط العيش "المستوردان" من مدن شرق أوسطية كثيرة: دمشق، حلب، بغداد، بيروت، طرابلس، إسطنبول، القاهرة، وصولا إلى مراكش المغربية. ولربما لا ينقص "شارع العرب" البرليني سوى ضروب من ألعاب الخفة التراثية والشعبية - إلى جانب ما فيه من أنواع المطاعم والمآكل ومقاهي النراجيل ومتاجر السلع الشرقية واللحوم الخضر والحبوب المناسبة للمطبخ الشرق أوسطي - كي يصير نسخة طبق الأصل تقريبا عن ساحة جامعة الفنا المراكشية الشهيرة سياحيا، والتي صنّفتها منظمة اليونسكو وأدرجتها سنة 2001 على قائمة التراث الإنساني العالمي.
كثيرة هي المدن الألمانية التي تحوي شوارع مماثلة لـ"شارع العرب" البرليني، لكن أصغر منه وحسب حجم كل مدينة وجالياتها المهاجرة والمقيمة فيها. ففي مدينة كولن جنوب ألمانيا أنشأت الجاليتان التركية والكردية شارعا للتجارة والمطاعم والمقاهي الإثنية. وحضور السوريين قبل سنوات بدأ يوسع الشارع والحركة التجارية فيه. والداخل إلى الكبرى من هذه المتاجر - التركية منها هي الأعرق والأسبق زمنا من اللبنانية والسورية - سرعان ما يتصور أنها خليط من متاجر "مال قبان" في الأسواق التقليدية القديمة في مدن المشرق، ومن السوبرماركت الحديث. وهذا ما تظهره أنماط توضيب السلع التي تنطوي على شيء من الفوضى والصخب المدروسين، الموازيين لانعدام صمت الزبائن والمتبضعين أثناء تجوالهم في هذه المتاجر. فهم غالبا ما يتبادلون مع باعتها الموظفين أو أصحابها كلاما - بالتركية أو الكردية أو العربية - على هامش البيع والشراء وأنواع السلع. وهو كلام ينم عن إلفة وأريحية ورغبة في كسر الصمت الذي يسود أثناء التبضّع في السوبر ماركت. كأن الطرفين في إقبالهما على هذا النوع من الكلام يستبدلان به عادة المساومة في الأسواق التقليدية القديمة التي وصفها الكاتب والروائي بالألمانية الياس كانيتي (1905- 1994) في كتابه "أصوات مراكش" الذي وصف فيه "جماليات" المساومة في الأسواق المراكشية.
بين التحرّش والمافيات وجماليات الاختلاط
المادة الصحافية الواسعة في القسم العربي في إحدى الوكالات الإعلامية الألمانية (دويتشه فيله، DW، الشبيهة بـ BBCاللندنية) عن "شارع العرب" البرليني، تركّز اهتمامها على طابع "الاختلاط الإثني، التجاري والثقافي والفني" فيه. وهي تسميه "بيروت الصغيرة" و"سوريا الصغيرة"، وتعرض التغيُّرات التي طرأت عليه منذ الثمانينات حتى اليوم. أما حي كروزبرغ القريب من "شارع العرب"، والذي يكثر فيه الأتراك منذ الستينات، فتسميه الوكالة عينها "اسطنبول الصغيرة" أو "الحي التركي" في متابعاتها الصحافية.
وإلى جانب نقلها بعضا من الحوادث والتوترات "القومية" و"الطائفية" والنزاعات التنافسية التجارية وشبه "المافيوية" بين قدامى التجار اللبنانيين الشيعة والسوريين الجدد - وهذه كلها تلابس الحياة اليومية في الشارع والحي هذين - تتوسع تحقيقات وكالة (DW) الصحافية في وصف "جماليات" الاختلاط والتعايش فيهما. وهذا على خلاف المقالات والتعليقات التي يكتبها عن "شارع العرب" كتّاب/ كاتبات عرب وسوريون علمانيون ويساريون على وجه الخصوص، وهم مقيمون في برلين أو عواصم أوروبية أخرى. وهؤلاء يبرزون الوجه السلبي أو السيئ للشارع ويستنكرونه، بوصفه "شارع التحرش اللفظي بالنساء العربيات"، وزجر غير المحجّبات منهن كي يتحجّبن.
من خلال سوريا الألمانية تريد ألمانيا أن تضخ حيوية الشباب في نسيج مجتمعها. وربما هي فعلت ذلك ليس بلا أكلاف وحذر ومخاوف، لا من اللجوء السوري المليوني فحسب، بل من نفسها وعلى نفسها وانتظام حياتها السياسية
وهو أيضا شارع "تجارة الحلال"، أي المأكولات واللحوم "الحلال" الذائعة الصيت في "أوروبا المسلمين". وهذه وسواها من التجارات والأعمال في "شوارع العرب" بالمدن الألمانية تسيطر عليها "مافيات" تعمل في الظلام أو في الخفاء، وغالبا ما يتحول تنافسها التجاري إلى انقسامات وولاءات قومية وإثنية وطائفية ونزاعات لا تخلو من العنف. وهي تدور في الخفاء، فلا تُبلَّغ عنها السلطات الأمنية والقضائية الألمانية. لذا تظل كامنة وقابلة للتناسل الداخلي والانفجار بين حين وآخر، بين اللبنانيين الشيعة القدامى في الشارع والسوريين الذين تكاثروا حديثا فيه.
ألمانيا تجدّد شبابها؟
يشعر العابر في "شارع العرب" البرليني أن روّاده من جاليات البلدان العربية المهاجرة واللاجئة، يأتون إليه خصوصا في نهارات الأحد والعطل والأعياد، طلبا لأوقات عابرة من الإلفة العائلية والأهلية الحميمة. لقاءات تجمعهم هنا في مطاعم الشارع ومتاجره ومقاهيه ومخابزه، ربما تعويضا عن عالمهم واجتماعهم الأصليين اللذين فقدوهما في بلدانهم التي غادروها. والأصح القول التي فروا منها باحثين عن خلاص أو نجاة من البؤس والمهانة والخوف والفاقة والقتل... التي صارت سمة وأفعالا أساسية في إدارة الشأن العام والحياة السياسية الحربية في بلدانهم التي لم يبق فيها من السياسة سوى الحرب والقتل.
وها هم في أمان وحرية ينشئون في مهجرهم وموطن لجوئهم نمط العيش والعلاقات الذي لا يعرفون ولا خبروا سواه، لكن ضمن الشروط والقوانين الألمانية العامة التي لا بد من أن يلتزموا بها في العلانية العامة. لأنهم يدركون أن خرقها يعرّضهم للمساءلة والملاحقة القانونيتين، ويهدد مصالحهم ومورد رزقهم وحياتهم ووجودهم القانوني الآمن في البلاد الجديدة التي فروا إليها. وتحت حرصهم على الالتزام بالقوانين الألمانية، أو خلفه، لا بد من تستُّرهم على مناكفاتهم وتنابذهم ومنازعاتهم وأساليب تسوية خلافاتهم، تلك التي يحفل بها الإرث الاجتماعي والثقافي المديد الذي لم يختبروا سواه في بلدانهم. وهم لا يدركون - ومن أين لهم أن يدركوا؟ وربما يدركون بعد سنوات كثيرة من حياتهم وإقامتهم وعملهم هنا في ألمانيا - أن ذاك الإرث الذي يلابس الاجتماع والسياسة والحياة اليومية العامة في بلدانهم هو أصل مأساتها ومآسيهم التي تداركوها بالفرار منها لاجئين إلى أوروبا.
والأرجح أن ضرورات التزامهم "الشكلي" أو "الإداري" بالقوانين الألمانية، واضطرارهم إلى لجم ذاك الإرث المدمّر المتشبّث بثقافتهم وعلاقاتهم وحياتهم، وإزاحته من دوائر حياتهم في العلانية العامة إلى حياتهم وعلاقاتهم التحتية الخاصة، الأرجح أن هذا كله من علامات ومؤشرات سيرهم على طريق تقليص حضور الإرث ذاك في حياتهم وعلاقاتهم هنا في ألمانيا. والأغلب أن ألمانيا، سلطات ومؤسسات ومجتمعا، تساعدهم في ذلك.
فهم هنا أحرار، لكنهم مكبلون بذاك الإرث. لكنهم بالتأكيد ليسوا في سوريا حافظ وبشار الأسد، ولا في لبنان حسن نصر الله ونبيه بري، ولا في عراق صدام حسين ونوري المالكي، و"داعش" والحشد الشعبي، ولا في فلسطين ياسر عرفات و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" وحملات إسرائيل الدموية المدمّرة للفلسطينيين. بل هم في منأى من ذاك الرعب الذي أرسته تلك الديكتاتوريات التي أذاقتهم صنوف المظالم والعذابات المديدة.
فالأمن والأمان والضمانات والمساعدات الاجتماعية والصحية، وكذلك الحريات والعدالة في دولة القانون، هنا في ألمانيا، لا بد من أن تحفزهم على المضي قدما في تحرير حياتهم وعلاقاتهم من سلطان ذاك الذعر الذي كان يتشبث بها وحملوا في نفوسهم شطرا منه إلى الديار الألمانية التي رحبت بهم وأوتهم، ليس مكرمة إنسانية وأخلاقية منها، بل لمصلحتها ولحاجتها إلى قوة عملهم وحضورهم الإنساني والثقافي الحي والنابض في شيخوخة مجتمعها وقلة إقباله على الإنجاب والتوالد.
فمن خلال سوريا الألمانية تريد ألمانيا أن تضخ حيوية الشباب في نسيج مجتمعها. وربما هي فعلت ذلك ليس بلا أكلاف وحذر ومخاوف، لا من اللجوء السوري المليوني فحسب، بل من نفسها وعلى نفسها وانتظام حياتها السياسية. فها هو حزب "البديل" القومي المتطرف الكاره للاجئين والمهاجرين الأجانب يزداد قوة وحضورا في الحياة السياسية الألمانية، شأن أمثاله من الأحزاب الأوروبية. لكن في المقابل هناك قوى اجتماعية وسياسية واسعة ولا تزال كبيرة وفاعلة في جبهها تصاعد قوة "البديل"، وخصوصا الفئات الألمانية الشابة التي تجد في حيوية وسيولة نمط حياة السوريين في العلاقات والمأكل والملبس والتعبير والغناء والموسيقى... فنونا جديدة ترغب في استدخالها في ثقافتها والانفتاح عليها واختبارها. وهذا بدوره يقلل من "وحشة" السوريين وسواهم من أمثالهم في الصقيع الألماني، وربما يشجعهم على عدم تشبّثهم بذاك الإرث السلبي "الخشن" الكامن خلف المشهد العام في "شارع العرب" البرليني.