يقول الجيش الإسرائيلي إن وحداته توغلت ليل 27 أكتوبر/تشرين الأول في شمال قطاع غزة، ونشر على وسائل إعلامه لقطات لقواته البرية من وحدات المشاة والدبابات ووحدات الهندسة داخل القطاع، فيما يواصل طيرانه قصف ما يسميه أهدافا لحركة "حماس". وبينما تشير صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" إلى أن "القوات الإسرائيلية لا تزال داخل القطاع وتعمل في عمقه أكثر من التوغلات المحدودة السابقة"، يؤكد الجناح العسكري لحركة "حماس" أنه يخوض اشتباكات عنيفة مع القوات الإسرائيلية شمالي غزة حول بيت حانون، وفي وسط القطاع شرق مخيم البريج للاجئين، ويتوغل مقاتلو "كتائب القسام" خلف خطوط الوحدات المهاجمة ويشتبكون معها.
تتعذر الإحاطة بشكل دقيق بما يجري في شمال غزة لجهة عمق التدخل الإسرائيلي وحدوده وماهيّة مهمته، وهل ما يجري هو مقدّمة للعملية العسكرية الكبرى التي تريد إسرائيل من خلالها تدمير حركة "حماس"؟ أم إن القرار سيبقى رهنا بالنتائج التي سيحققها التوغل؟ هذا ما دفع كثير من المراقبين إلى التساؤل عما إذا كان الاجتياح البري المرتقب قد انطلق فعلا، أم إن ما يجري يعود لدوافع أخرى؟ كل ذلك دون أن ننسى أن العملية البرية المزعومة التي تأجلت عدة مرات وفقا لتوصيات أميركية سواء لأسباب تتعلق باستكمال حشد القوات لحماية المصالح الحيوية الأميركية، أو لعدم نضوج الاستراتيجية المتعلقة بمرحلة ما بعد انتهاء العملية وكيفية إدارة القطاع. في مطلق الأحوال، كل ما يمكن الجزم به حتى الآن هو أن القطاع يتعرض لأعنف حملات التدمير الشامل، وأن كل ما في غزة من منشآت مدنية وصحية وسكنية وبنى تحتية مدرج على لائحة الأهداف.
الحرب على غزة هي حرب على كل ما يمتّ بصلة للعمران البشري، بهدف إنهاء دورة الحياة في القطاع حتى إشعار آخر. صحيح أن المسار الميداني يبدو الأكثر وضوحا ولكن هل هناك مسارات أخرى تسير بالتزامن مع عملية التوغل الإسرائيلية، وما هي هذه المسارات:
أ- المسار التفاوضي لإطلاق الأسرى. وهو الذي يتم من خلال اتصالات جارية حاليا بين حركة "حماس" وإسرائيل بوساطة مصرية قطرية مشتركة، تركز على الأسرى الذين احتجزتهم الحركة خلال هجومها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وتشكّل مسألة الأسرى نقطة قوة كبيرة لـ"حماس" فيما تشكل نقطة ضعف كبرى لإسرائيل توازي فشل قواتها المسلحة ومؤسساتها الأمنية في توقّع الهجوم وفي التصدي له واستعادة المبادرة.
وفيما يمكن لحركة "حماس" تحويل مسألة الأسرى إلى تهديد حقيقي بوجه إسرائيل في لحظة حرجة للجم المغامرة العسكرية، تتفاقم تداعيات هذا المأزق بوجه حكومة نتنياهو في الداخل الإسرائيلي وفي الخارج، نظرا لوجود أسرى من جنسيات مختلفة، كما يمكن أن تتحوّل إلى عنصر ضاغط على قرارات الحكومة لخفض سقف مطالبها والخروج من المأزق بأقل قدر من الخسائر. وفي هذا السياق يصبح القصف التدميري على القطاع والتوغل المحدود جزءا من عملية "تفاوض بالنار" تجري بين الفريقين، محكومة باستمرار التفاوض والحفاظ على حياة الأسرى بما يفضي إلى تقييد حدود العملية العسكرية وتحوّلها تدريجيا إلى "استراحة محارب".