يبدو أن الجزائر تتجه رويدا رويدا نحو التحرر في المجال اللغوي الذي بقيت فيه لغة المستعمر (اللغة الفرنسية) التي ظلت لسنوات مسيطرة على معظم الجوانب الحياتية وعلى الوظائف الفكرية، حتى إنها تجاوزت حسب الدكتور الجزائري عبد القادر فضيل (أحد المدافعين وبقوة عن تمكين اللغة العربية بالجزائر)، تجاوزت "الحدود التي رسمت لها وأصبحت وجها من أوجه الاستعمار الفكري الذي زاد بلادنا تأخرا، فزاحمت لغة البلد، وتبوأت وظائف ليست لها، ووجهت في سنوات خلت القائمين على شؤون البلاد إلى عدم الاهتمام باللغة المحلية".
ولتصحيح الوضع القائم، انتهجت الجزائر سياسة جديدة لإنهاء هيمنة هذه اللغة، ولذلك أصبحت تعاني حالا حادة من الانحسار السريع في التداول الرسمي، وأصبحت الإنكليزية الأكثر شيوعا على المستوى الرسمي، في انتظار فك الارتباط وتكريس القطيعة مع لغة المستعمر القديم، لا سيما على مستوى التداول الشعبي لأنها أصبحت من العادات المجتمعية التي توارثناها عن أجدادنا وصار كل حديثنا بالفرنسية.
المؤشرات تتوالى
أول المؤشرات التي تبرز بوضوح التوجه الجديد للدولة الجزائرية وانحسار التأثير اللغوي الفرنسي، الرسالة التي وجهتها وزارة التربية الجزائرية إلى أولياء الأمور، تخطرهم فيها بأنها قررت "تطبيق القانون بمعناه الحرفي"، وهو ما يعني منع "البرنامج المزدوج" وهي الخصوصية التي كانت متبعة في المدارس الخاصة والتي تسمح للطلاب بمتابعة البرنامج الجزائري والبرنامج الفرنسي في آن واحد، كما يعني منع استعمال كتب مدرسية غير تلك الموجودة في البرنامج الذي ضبطته الدولة الجزائرية والتقيد بـ5 ساعات من برنامج اللغة الأجنبية.
ثاني المؤشرات التي تبرز بوضوح التخلي وتراجع اللغة الفرنسية، إعلان السلطات الجزائرية اعتماد الإنجليزية لغة للتدريس في الجامعات بدلا من اللغة الفرنسية، اعتبارا من الموسم الجاري، وتزامنا مع هذا فسحت جامعة جزائرية المجال أمام الطلبة والأساتذة الجامعيين لتعلم اللغة الروسية مجانا، ويضاف هذا إلى التقدم الذي أحرزته المؤسسة العسكرية في مجال تلقين هذه اللغة، إذ ألقى ضباط الأكاديمية العسكرية بمدينة شرشال الساحلية (تبعد حوالي 100 كلم غرب العاصمة الجزائرية)، خطابا خلال حفل تخرج الدفعات العسكرية باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والروسية في سابقة هي الأولى من نوعها.
وفي الواقع، فإن استعمال اللغة الإنجليزية داخل المؤسسة العسكرية ليس وليد اليوم، إذ كانت وزارة الدفاع الجزائرية أول جهة رسمية جزائرية تقرر القطيعة مع اللغة الفرنسية عام 2015، بعد صدور قرار مفاجئ بتغيير لافتة مقر الوزارة بالعاصمة واستبدالها بأخرى مكتوب عليها "وزارة الدفاع الوطني" باللغتين العربية والإنجليزية بدلا من الفرنسية، لكن اللافت للنظر اللغة الروسية التي كانت حاضرة جنبا إلى جنب مع اللغة العربية والانجليزية في خطوة هي الأولى.
إشارات سياسية
من المؤكد أن ما حدث بين أسوار المؤسسة العسكرية هو مناسبة لتوجيه إشارات سياسية مهمة، ويقرأ أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشؤون الأمنية مبروك كاهي في تواصل مع "المجلة" التوجه الجزائري الرسمي الجديد تجاه اللغة الروسية على أنه "يعكس ويترجم التعاون العسكري بين الجزائر وروسيا. وبحسب تقارير دولية، فالجزائر تعتبر ثاني شريك تجاري لروسيا في القارة الأفريقية كما تعتبر ثالث مستورد للسلاح الروسي في العالم بينما تعتبر موسكو أول مزود للجيش الجزائري بالأسلحة والأنظمة الحربية بنسبة تتخطى عتبة الـ50 في المئة".