تمتحِنُنا غزّة

تمتحِنُنا غزّة

تمتحنُنا غزّة مرّة أخرى بحيّزها الجغرافي الضئيل أولا، وهي تتجشّم فداحة حرب همجيّة شاملة الاستهداف من طرف إسرائيل بدعم شبه دولي، وفي المقدمة شريكاها التقليديان أميركا وبريطانيا... فضلا عن تواطؤٍ أوروبي مُخْزٍ، خاصّة من فرنسا وإيطاليا وألمانيا و... على طول 22 يومٍ فجائعيٍّ، في حين يظلّ أمدُ إبادتها ومحوها قيد أجل لا مسمّى.

تمتحننا غزة هذه المرّة بعزلتها الأقسى من أيّ وقتٍ مضى في وقائع الحصار ضمن أغرب سجنٍ جماعيٍّ مُعاصرٍ في الهواء الطلق منذ سنة 2007، إذ عزلتها بهذه اللحظة التاريخية أشدّ بشاعة وهي تجابه أعنف قتل جماعي يستهدف شعبها الفلسطيني دونما استثناءٍ، متكبّدة طائل مجازر يومية تستبيح دم العائلات قاطبة، غير مبالية بحُرمة مدنيّيها أطفالا ونساء وشيوخا.

تمتحننا غزة وقد أمست وتيرة المذابح الهمجيّة المتعاقبة على مرأى فرجةٍ مباشرة (إما قنوات إخبارية متخصصة وغيرها، أو فيديوهات هواتف ذكية الالتقاط) تشهر عناوينها العاجلة مقتل طفل فلسطينيّ على مرّ كلّ خمس عشرة دقيقة، كأنما هؤلاء الأطفال وهم مشاريع مقاومين في الغد القريب، من تخشاهم إسرائيل من زوالها المنذور لساعة موقوتة مهما استطال الموعد.

في كل الحروب التي شنتها إسرائيل سابقا على غزة وفق هذه الذريعة وتلك، كان استهداف الأطفال عمدا في ناصية المقام، عن سبق إصرار وترصد، حتى يوهموا الرأي العالمي بأنّ غزة من يقدم أطفالها قرابين لمذبحة الحرب، في حين غزة بحجرها وبشرها سيان لدى آلة الجريمة الإسرائيلية العمياء، والهدف المضمر احتلالها من جديد، بعد أن استنفدوا ورقتها السياسية السابقة في لعبة التقسيم اللئيمة.

كل حرب عنصرية أو فاشية أو نازية، هي وحشية من حيث المبدأ، وتغدو أكثر وحشية حينما تستهدف أطفالا عنوة وقصدا، وبالنظر إلى ذلك فمقتل الأطفال على هذا النحو اللا مبرر له، كيفما كانت الذرائع، لا يدين الجانب الإسرائيلي وحده، إنما يدين إنسانيتنا جميعا في ظل توافق دوليّ يبيح للقاتل جريمته ويحرضه على المزيد منها.

كل ما يليق بالفلسطيني الغزاوي أن يكونه وفق هذا العمى الإسرائيلي وسعار إجراميته، هو أن يصير جثة تحت الأنقاض، وحتى إن انتِشلتْ جثته فلا يستحق إلا أن يُدفن مع قتلى بالعشرات والمئات في قبر جماعيّ هائل

تمتحننا غزة بحمامات دمائها المفصدة اللحظة تلو الأخرى، في مسلسل رعب ألطف ما يمكن أن يوصف بالكابوسيّ أو التراجيديّ، إذ ما عادت العمارات المأهولة بالسكان وحدها ما تصطفيه عيون القصف الصاروخي بعناية، بل تطاولت بجُبنٍ على المستشفيات المأهولة بالجرحى وأغلبهم أطفال ونساء، كذلك تتبعت قوافل النازحين وأهلكت من لاذ بالمخيمات أيضا. ولم يسلم من البطش الكاسح حتى الصحافيون، المراسلون منهم على نحو خاصٍّ... وفق هذا العمى الإسرائيلي وسعار إجراميته، ما عاد يخفى ما يعلنه بملء الجنون الدموي: ليس يجدر بالغزاوي الفلسطيني أن يكون طفلا. لا يحق له أن يكون جريح غارةٍ يحتاج إسعافا طارئا في مستشفى يعاني بدوره قطع الكهرباء. ليس حريّا به أن يكون حتّى نازحا أو لائذا بمخيّم أو كنيسة إلى حينٍ أو إلى الأبد، وممنوع بالقطع أن يكون صحافيا، مراسلا بالذات وهو يمارس نبل مهنته بأمانة في معترك الوقائع الدامية.

كل ما يليق بالفلسطيني الغزاوي أن يكونه وفق هذا العمى الإسرائيلي وسعار إجراميته، هو أن يصير جثة تحت الأنقاض، وحتى إن انتِشلتْ جثته فلا يستحق إلا أن يُدفن مع قتلى بالعشرات والمئات في قبر جماعيّ هائل.

ليس هذا وحسب، بل إنّ الأطفال قيد الولادة، ممن لم يكملوا أسبوعا في مدونة الوجود، بل لم يظفروا بعد باسم في حفل عقيقة موشوم، استبَقَت آلة الجريمة الإسرائيلية الحيلولة بينهم وبين أزهار أسمائهم المنذورة للإشراق في حالتهم المدنية، وكأنّ شراهة قتل الأطفال ما عادت وحدها تكفي، وبذا فقتل أسمائهم قبل أن ينعموا بها في متم أسبوعهم الأوّل هو ما نبغت الجريمة الإسرائيلية في اقترافه بصورةٍ فادحة ليس لها مقابل في معجم بشاعة سابقة أو قاموس لاحق.

تمتحننا غزّة في مهبِّ سقوط إنسانيّ وأخلاقيّ صادمين، لدرجة بات التعاطف مع أطفالها جريمة يُعاقب عليها في أعرق الدول التي تتشدّق بحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، وأبعد من ذلك باتت حتى همسة أوقفوا الحرب، مثار هجمة إعلامية مسعورة يتلقاها صاحبها في بلدان تدّعي ثقافة حرية التعبير والانحياز الدائم للسلام هنا وهناك. هكذا أمسى المهوى الأوروبيّ من الداعمين لهذه الحرب الشعواء صفيقا، وموجعا لمن فاتته ازدواجية هؤلاء التي صارت معلنة بلا مواربة.

تمتحننا غزة في وقت حادٍّ يصرّ فيه العالم –الرسمي- أن يتواطأ ضدّ أطفالها غير مبالٍ بكل الصور الاستنكارية لتواتر المظاهرات الصاخبة الخارجة إلى الشوارع تنديدا بالحرب الإسرائيلية ضدّ فلسطينيّي القطاع، ورفع أعلام فلسطين وكوفياتها من لدن شعوب كرة القدم في الملاعب العربية والدولية مع أناشيد ويافطات تدعم حريتها، وتعاقب البيانات الصارخة ومبادرات الوساطة. وفي المقابل سقطت أشكال التسويات السابقة المتوقعة، مما يجعل حالة الحرب تتطابق مع خطابات معلنيها من الجانب الإسرائيلي الذين حشدوا لها الدعم الفعلي بحضور رؤساء الدول المتحالفة إلى تل أبيب شخصيّا، كيما يفاقموا من وتيرة جدية هذه الحرب التي لا تشبه مثيلاتها الآنفة، إذ ستستغرق وقتا طويلا وفق مخطط جذري تروم تحقيقه بأيّما ثمن.

font change