لبنان... تفاعلات شعبية متباينة حول الحرب في غزةhttps://www.majalla.com/node/303121/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
تتبدّد حلقات دخان التبغ في الجوّ دون أن يتبدّد معها قلق السيدات الجالسات معا في المقهى. لم تفوّت سلام، سيدة بيروتية ستينية، موعد العصرونية مع صديقاتها في مقهى "الروضة". تشغلهنّ الحرب في غزّة واحتمال توسّعها إلى لبنان. لكن لا يزال وقع مجزرة المستشفى المعمداني، وما تبعها من استهداف للمدنيين حيثما حلوا، مسيطرا "هؤلاء عُزّل في المستشفيات. أطفال ونساء يتطبّبون ويختبئون من القصف. كيف ولماذا؟".
وتردف مجيبة عن سؤالنا: "تعيدني هذه الأيام إلى حرب يوليو/ تموز (2006). ولكن مَن يُصدّق أنّ معارك غزّة أشدّ وقعا؟ الترقب يقتل. في حرب يوليو تحرّكنا سريعا وتركنا البلاد، فقد استطعنا سحب أموالنا من البنك واللجوء إلى سوريا بعدما قصف مطار بيروت، ومنها استطعنا السفر إلى ابني في أميركا. أمّا اليوم فأموالنا محتجزة ولا نعرف متى ستنفجر الحرب".
يتفاوت التفاعل في لبنان مع الحرب في غزّة باختلاف المجتمعات ضمن البلد الصغير الواقع على فوهة بركان فلسطين. وإذا كانت سلام تنتمي إلى المجتمع البيروتي الهجين بانتماءاته العقائدية والوسيط جغرافيّا بين الأمان والخطر، فإن ملامح التفاعل الشعبي تغدو أكثر خصوصية كلما ابتعدنا صوب جنوب لبنان أو شماله، في منطقتين تستكملان تاريخا متباينا ولكن وثيق الالتحام بفلسطين. في ما تأخذ التفاعلات بمرور الوقت منحنيات جدلية ومتعارضة عند المسيحيين.
هزالة التفاعل الجماهيري تضمر هواجس وديناميات متعددة، وهي شرارات كامنة قد تستكمل أو تؤسس تغييرات في موقف اللبنانيين من القضية الفلسطينية والفلسطينيين
بلادة المشهد
تحركات جماهيرية محدودة يشهدها لبنان، بالمقارنة مع تظاهرات حشدت عشرات الآلاف في محيطه العربي والعالم. يتشابك الجمود العام مع حالة الحذر وتعقيد المشهد العسكري. خصوصا بعد إعلان "حزب الله" يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول، أنه سيكون "يوم غضب"، غير أنّ النهار مضى دون تصعيد حربي. وحتى اللحظة، لم يظهر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطبه المعهودة ولم يعلن عن موقف من الحرب في جنوب لبنان، فاستسلم اللبنانيون إلى توقّع كل ما هو غير متوقّع.
وفي ما خلا منشورات على الصفحات الافتراضية تحثّ على مقاطعة البضائع الداعمة لإسرائيل، تلاها بيان لإدارة "ماكدونلادز" في لبنان يؤكد استقلاليتها، وبعد موجة غضب وتضامن استجلبها استشهاد الصحافي عصام عبد الله بغارة إسرائيلية على الحدود مساء 13 أكتوبر، وهجوم لفلسطينيين على السفارة الأميركية أخمده الأمن... وفي ما عدا مرور غير مرئي الذكرى الرابعة لانتفاضة "17 تشرين"، وهي فقدت منذ سنتها الأولى حضورها وتأثيرها، وانقسام للآراء حول استمرار معرض بيروت الدولي للكتاب العربي الذي انطلق بالتزامن مع الأحداث، فأجّل بعض الكتاب أو ألغى تواقيع كتبهم واستمر المعرض... لا علامة فارقة للحرب في يوميات اللبنانيين.
لا تشكّل هذه الإشارات تشخيصا قطعيّا أو خطّ سلوك عميق لتفاعلات المجتمع اللبناني مع الحرب في غزة، ولكنها تحيل إلى تفاعله مع الشعور بـ"الأزمة". وهنا يمكن القول إنّ هذا التفاعل يحاكي تحليل إدغار موران بوصف إنسان الأزمة (اللبناني الذي يكابد أزمات على مختلف الصعد) بـ"حيوان أزميّ" تحرّكه شبكة تناقضات، فيعرّضه تراكم الأزمات إلى نوع من الخدر، فيستجيب "بصفة عادية" معها، وتتعرّض وسائل التحكم لديه وردود أفعاله إلى التجميد. وهذا ما يحمله السؤال المحيّر والدائم حول مرونة اللبناني وقدرته على التأقلم مع كلّ التهالك الذي يعيشه منذ 4 سنوات.
غير أنّ هزالة التفاعل الجماهيري تضمر هواجس وديناميات متعددة، وهي شرارات كامنة قد تستكمل أو تؤسس تغييرات في موقف اللبنانيين من القضية الفلسطينية والفلسطينيين، ويمكن في ما يلي رصد أهم تجلياتها.
أوّلا- الهجرة
تحرّك اللبنانيين استجابة "الكرّ أو الفرّ"(fight or flight) إزاء المجهول الذي يلفّ الحرب، واستفاقت عند أكثرهم الرغبة في الهجرة، والبعض وجد فيها ضرورة وحسم قراره بعد تردّد.
هذا حال كريم قليلات، الذي تلقّى مع زوجته أخيرا قبول طلبه للهجرة إلى كندا "تطلبت المرحلة الكثير من الإجراءات والرسوم ومبالغ بنكيّة مرقومة كان علينا تأمينها خلال شهرين. كنت أتساءل هل هذا الضغط ضروري وفي توقيته الصحيح؟".
ويتابع أنّه عند اندلاع الحرب في غزة، وجد مبرّرا لهذه المصاريف، وسيسارع للهجرة متى حصل على الفيزا "لأجل طفلتنا المنتظرة أوّلا. لا أريد أن تعيش ابنتي الحرب. عرفتُ في طفولتي من الحروب ما يكفي لأفهم قسوتها".
وعلى "فيسبوك"، تتلاحق المشاركات في مجموعات محلية حول كيفية الهجرة الى كندا: سيدة تسأل إن كان باستطاعتها السفر مع ولديها القاصرين اللذين يحملان الجنسية والبقاء هناك، سيدة أخرى تريد تمديد زيارة والدتها لأجل مفتوح، شاب يسأل عن الوقت اللازم لإنهاء معاملة الهجرة وعن إمكانية تسريعها، طالب يريد تحويل إقامة الدراسة إلى إقامة دائمة.
وتزدحم بوابات المغادرة في مطار بيروت الدولي باللبنانيين والرعايا والطلاب العرب والأجانب الذين استجابوا لتحذيرات حكوماتهم، في حين ركنت شركت طيران "ميدل إيست" بعض طائراتها في مطار إسطنبول "تحسبا لتكرار سيناريو حرب يوليو" حسبما جاء في بيانها.
ثانيا- الموقف المسيحي
تخللت البرامج الحوارية مواقف وتدوينات لمسيحيين في الشأن السياسي يلازمون عنصريتهم تجاه الفلسطينيين، ولم يتردّدوا في بثّ خطابات كارهة وأحيانا شامتة. ولم يفاجأ المتابعون بأنّ هذه المواقف لا تكترث للحرب في غزة، وهمّها فقط عدم اشتعال الجبهة في لبنان. تعود هذه المواقف إلى كوادر أحزاب يمينية مسيحية أهمها "الكتائب" و"القوات اللبنانية" المعروفة بعدائها التاريخي والدموي للفلسطينيين وتحالفات وشراكات سياسية وعسكرية سابقة مع الاسرائيليين.
موقفان يستجدّان في الأحداث الأخيرة:
-يمنى الجميّل، نجلة زعيم "الكتائب" بشير الجميّل، تعلن على منصة "إكس" إنه إذا فُرضت الحرب على لبنان "سوف نقف إلى جانب كل 'لبناني' مهما كانت طائفته أو رأيه أو انتماؤه"، في تلميح إلى المكوّن الشيعي وجمهور "حزب الله". المثير للاهتمام أنّ موقف جمهور الجميّل بدا "كتائبيّا أكثر من الكتائبيين" من خلال موجة سخط وغضب مسيحيّ استدرجها هذا التّصريح.
تخللت البرامج الحوارية مواقف وتدوينات لمسيحيين في الشأن السياسي يلازمون عنصريتهم تجاه الفلسطينيين، ولم يتردّدوا في بثّ خطابات كارهة وأحيانا شامتة. ولم يفاجأ المتابعون بأنّ هذه المواقف لا تكترث للحرب في غزة، وهمّها فقط عدم اشتعال الجبهة في لبنان
- في المقابل، صعدت أصوات داخل الوسط المسيحي وبيئة أحزابه اليمينيّة، تدعم الفلسطينيين دون لبس.
إيسامار لطيف، صحافية ومقربة من "الكتائب"، تقول "آسفة أنّني أنتمي لفئات مسيحية في لبنان تواصل نبش القبور وفتح تاريخ المجازر مع الفلسطينيين، مثل مجزرة الدامور، مع العلم أن لجوء الفلسطينيين إلى لبنان كان في كنف ورعاية آل الجميل (المؤسسون لحزب الكتائب)".
وتوضح "تضامني مع الشعب الفلسطيني لا يعني تأييدي لحماس أو أي جهة سياسية. أنا متضامنة مع شعب تتضاعف معاناته منذ 75 سنة. قضية الشعب الفلسطيني هي قضية إنسانية في المقام الأول ولا تحتمل استنسابية المواقف".
وتستعيد لطيف مجازر وقعت بحق الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا والضبية وتل الزعتر وغيرها، لتستنتج "مَن فتح الدفاتر القديمة يتحدّث من منطق حاقد ثأري لا يصبّ في مصلحة لبنان. أنا ممن يتضامنون مع أبناء وأحفاد تلك الحروب وهم أبرياء، فلماذا نحملهم أخطاءنا السياسية؟".
وفي السياق، تنتقد تعامي هذا الخطاب عن "فرصة تاريخية لعودة للفلسطينيين إلى أرضهم، وإفراغ سلاح حزب الله من مشروعيته".
وتختم بأنّ كل شخص تملي عليه مسيحيته العداء للفلسطينيين أو الشماتة بهم يخالف رسالة السيد المسيح.
ثالثا- عروبة طرابلس وفلسطين
تشهد مدينة طرابلس شمال لبنان حالة تضامن شامل وغير قابل للنقاش مع الفلسطينيين، يكاد يطغى على القلق حول حرب محتملة في لبنان.
وتبرز هذه التفاعلات على أكثر من مستوى، وثمة عائلات أعلنت عن استعدادها لفتح أبواب بيوتها لاستقبال النازحين من جنوب لبنان.
وفي المقاهي والتجمعات الشعبية، تشغل فلسطين الأحاديث، وتحتلّ أحداثها الشاشات الصغيرة. كما تنظّم التجمعات النقابية والمهنية وقفات تضامن يوميّة، وانطلقت مسيرة شعبية كبيرة ضمّت المئات بعد صلاة الجمعة الماضية من الجامع المنصوري الكبير وجابت الساحات المركزية.
وتتموضع هذه الحالة فوق الحروب والموازين المحورية التي أزكت عداوات سنية-شيعية وزرعت خصومة ضد حزب الله في مركز السنة بلبنان.
ولا عجب أن تتبنّى طرابلس القضية الفلسطينية بشكل قطعيّ في مدينة قامت على تنشئة عروبيّة، فأدارت ظهرها للبحر وربطت وجدانها وسياستها بالداخل العربي ودافعت عن قضاياه دون تحفظ.
وكانت طرابلس تاريخيا أكثر مدينة لبنانية دعمت القضية الفلسطينية وأعطتها كتفا منيعا تتكئ عليه. وبدأ هذا المسار منذ نكسة 1967، وتبلور بداية السبعينات مع "المقاومة الشعبية" المسلحة التي أسسها القائد اليساري المحلي خليل عكاوي (أبو عربي) والذي كان مقرّبا من الرئيس ياسر عرفات (لجأ الأخير إلى طرابلس مع قواته في 1982 إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت).
ويحضر اليوم طيف أبو عربي باعتباره رمزا للنضال الشعبي من أجل المظلومين في فلسطين وفقراء طرابلس.
وفي هذه المناطق الشعبية، نتعرف إلى حسن، شاب من "القبضايات"، وكان ممن سارعوا بتوزيع البقلاوة للمارة صبيحة "طوفان الأقصى" احتفالا بـ"إنجاز" اختراق غلاف غزة.
يرتدي حسن بدلة قتالية وينشر صورته على مواقع التواصل ملثما بالكوفية وبيده سلاح حربي. يقول إنّه مستعد للحرب مع أخوانه في غزة، وإنّ "أبو عبيدة"، الناطق باسم "كتائب القسام، مثاله الأعلى وهو القائد الذي يتشرف به على عكس الزعماء والساسة في طرابلس غير المكترثين سوى لمصالحهم الخاصة.
رابعا- الجنوب المُسلم والمقاوم
تتواصل حركة النزوح من قرى الجنوب الحدودية التي تفرغ تدريجيا من أهلها، ويقصد بعضها مدينة صور التي فتحت مدارسها للنازحين برعاية المجتمع الأهلي واتحاد بلديات صور التي تمتلك خبرة إغاثية من حرب يوليو. وبعض العائلات تلازم شققها في "الضاحية" التي تشكل معقل الجنوبيين في بيروت.
من بين هؤلاء بتول بزي (28 سنة)، صحافية من قرية بنت جبيل الحدودية. تعلم بتول أن بيتها في الجنوب قد يتعرّض لغارة ويدمر في أي لحظة. تحدّثنا عن خوف طبيعي يشعر به كل إنسان، ولكنه "يلتئم بتسليم مطلق ويقين تام بقدرة حزب الله في الدفاع عنّا".
تشهد مدينة طرابلس شمال لبنان حالة تضامن شامل وغير قابل للنقاش مع الفلسطينيين، يكاد يطغى على القلق حول حرب محتملة في لبنان
وتعتبر بتول أنّ شعورها يتماهى مع غالبية مَن ينتمون إلى بيئتها، وهي "عائلات عاشت حرب يوليو، وعناقيد الغضب، والاجتياح الاسرائيلي، وقدمت شهداء في حرب تحرير الجنوب، وتستعد لأن تقدم المزيد من الشهداء دفاعا عن خط المقاومة".
ولكن المشهد المسيطر برأيها لا يمنع تقسيم الجمهور الشيعي ثلاثة أقسام:
- من يدعمون حزب الله دعما مطلقا ولا يساورهم أي شك بقيادة المقاومة.
- من يعتريهم الخوف من فتح جبهة الجنوب وتركوا قراهم الحدودية.
- شيعة غير مناصرين لحزب الله وضد خط المقاومة، وهم إما يقفون على الحياد أو لا رأي مؤثرا لهم.
وترد عن نفسها أسطورة "الاستبسال المطلق لأجل الحرب"، فهي عاشت حرب يوليو وخاضت تداعياتها النفسية والجسدية. تضيف "كنت أظنّ أن تغطية انفجار مرفأ بيروت كانت أقسى ظروف عملي، ولكن ليلة مجزرة مستشفى المعمداني كانت الأصعب. في تلك الليلة، تسمرت لساعات أمام الشاشة، أحرر الأخبار وأنشر الفيديوهات والصور. أصابني انهيار عصبي بعد منتصف الليل. أعتقد أنها صدمة نفسية جديدة تنتظر الشفاء".
وعلى الرغم من كل المخاطر والفواتير المعجلة والمؤجلة للحرب في غزة، تعود بتول إلى منطق التسليم: "حزب الله أدرى. أنا مناصرة لأي قرار للحزب سواء انحصرت المعارك ضمن قواعد الاشتباك أو توسّعت إلى حرب في لبنان"، خاتمة "نحن لا نسعى للحرب ولكن المؤكد أننا جاهزون لها".