قوة الثقافة وثقافة القوة

قوة الثقافة وثقافة القوة

سأل يوما الشاعر الفلسطيني محمود درويش سؤالا شعريا: ما الذي جعل غزة أسطورة؟ ثم كتب فيها قصيدة لا مثيل لها، من دون أن يمجّدها كما يظن البعض، واصفا إياها بالمدينة التي لا تجيء إلى أحد، فلا خيول لها ولا طائرات، ولا عصا سحرية، لكنها أسطورة منذ أن حرّرت نفسها منّا، من لغتنا وصفاتنا، وأنها لم تتحوّل إلى وظيفة، ولم تتأهّب لعدسات التصوير، ولم تضع معجون أسنان، ولم، ولم... فغزة من مواليد النار، بينما نحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار.

ولأن إسرائيل قالت يوما إن فلسطين لا يمكن أن تكون أمة، وإنها لا تملك ثقافة ولا أدبا، ولا مثقفين... قرر الشاعر مريد البرغوثي ألا يكتب شعرا إلا لوطنه فلسطين المسلوب، وبلغة أنيقة، طوال حياته.

ولأن الثقافة تنتصر للحرية والإنسانية وبكل الطرق، كتب الأديب إميل حبيبي الذي بقي في فلسطين، قصة الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم بعد النكبة، أما غسان كنفاني الذي خرج منها فكتب قصة الفلسطينيين الذين أجبروا على الفرار من وطنهم بعد النكبة، يبقى كلا النوعين من الكتابة يواجه المحو والنسيان ويقاومهما.

ولأن كنفاني كان كاتبا وصحفيا ومحررا، ومؤسسا لصحيفة، ولأنه ارتقى بالكلمة الفلسطينية، وبالأدب الفلسطيني، قتلوه بتفجير سيارته في بيروت، وهذا يؤكد أن الثقافة والكتابة من أقوى الأسلحة.

وهناك جبرا إبراهيم جبرا الذي غادر القدس ومنزله في حي القطمون منذ 1948 هاربا مع عائلته إلى بغداد، وأصبح يكتب هناك ويهتم بالحداثة وفن التراث، ومنتجا غزيرا للرواية والشعر واللوحات... كانت ثقافته الموسوعية تمتد عربيا إلى عالم الأدب الأوروبي والغربي، بوصفه مترجما، ناقلا المجهول بين الشرق والغرب، فكانت رسالته استثمارا غنيا وذكيا لوطنه فلسطين.

على الرغم من أن معارض الكتب الأوروبية أعطت في السنوات الماضية مساحة جيدة للمؤلفين الفلسطينيين، لكنها عادت للمراقبة الأمنية، كما حدث أخيرا مع الكاتبة عدنية شلبي

وتأتي الكاتبة الفلسطينية سعاد العامري، وهي التي اشتهرت بكتابها "شارون وحماتي" وكتاب "غولدا نامت هنا" كتبت قصصا مؤلمة قلة اهتمت بها، بعد أن قامت بجمع القصص الحقيقية لأشخاص طردوا من أرضهم وديارهم وخسروا منازلهم، فلا يمكن لأي إنسان نسيان مآسي الاستيلاء على المنازل في فلسطين واحتلال البيوت وإفساح المجال لعائلات المحتلين، وعن آلاف الضحايا وهم يخرجون من بيوتهم قبل وطنهم منذ 1948، مع استمرار حالة الفوضى والاستيلاء حتى 1967، وطرد المزيد من بيوتهم، حتى دون أن يكون لديهم الوقت لجمع متعلقاتهم... وتذكر المؤلفة كيف أنهم حين عادوا زائرين اليوم راحوا ينظرون إلى منازلهم مأهولة بالمستوطنين الجدد. يا للجرح. 

ولأن الأدب يحمل دورا عظيما في النضال ومقاومة العدوان، ما زال إلى اليوم يُمنع دخول كُتاب فلسطينيين إلى أرضهم، وإن كانوا يحملون جنسيات أوروبية، كما حدث مع الكاتب أحمد مسعود حين أراد المشاركة في مهرجان، على الرغم أنه يحمل الجنسية البريطانية، ولديه دكتوراه في الأدب الإنكليزي، وإنتاجه الأدبي غزير باللغة الإنكليزية، ليمنع على أساس أصله فقط، وهنا تصبح الجذور سببا للمنع، ويبرز التمييز العنصري في المجال الثقافي لإسرائيل، وعلى الرغم من أن معارض الكتب الأوروبية أعطت في السنوات الماضية مساحة جيدة للمؤلفين الفلسطينيين، لكنها عادت للمراقبة الأمنية، كما حدث أخيرا مع الكاتبة عدنية شلبي وهي مؤلفة مهمة أوصلت القضية الفلسطينية إلى جوائز عالمية، لكننا تأكدنا أن الخوف ما زال قائما من قوة الثقافة، بعد أن سحب تكريمها المقرر في معرض فرانكفورت الأخير، هناك مهابة واضحة، وتوجس من طاقة الثقافة.

وأخيرا، ومن أجل غزة اليوم التي يدفع أطفالها اليوم ثمن صراع تم خلقه عبثا، في حين لا يزال الغرب يسلح المعتدي ويقدّم له كلّ أشكال الدعم، تبقى المقاومة الثقافية أنصع وجه لفلسطين وحقيقتها.

font change