شنت إسرائيل هجومين بريين على قطاع غزة من قبل في 2009، و2014. بدأ الأول بعد 8 أيام من إطلاق عملية أطلقت عليها اسم "الرصاص المصبوب" في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008. وكان ذلك الهجوم، الذي استمر لأسبوعين، أصغر من الثاني الذي بدأ بعد 9 أيام من شن العملية التي سمتها "الجرف الصامد" يوم 17 يوليو/تموز 2014، واستمر 20 يوما بهدف تدمير الأنفاق في القطاع.
لكن القوات المهاجمة لم تذهب بعيدا في توغلها خلال الهجومين اللذين لم تخرج الاشتباكات خلالهما عن النمط المعتاد في المعارك بين جيوش نظامية و"ميليشيات" مدربة لخوض حرب عصابات أو مغاوير (Guerilla)، وحرب مدن وشوارع؛ حيث تعتمد القوات المهاجمة عادة على كثافة النيران والتغطية الجوية، فيما يلجأ المقاتلون المدافعون إلى نصب كمائن لها والإنزال خلف خطوطها ومحاولة قطع خطوط إمدادها.
غير أن الاشتباكات التي حدثت خلال الهجومين السابقين تعد محدودة، مقارنة بما يعلنه القادة الإسرائيليون عن الحرب البرية التي يقولون إنها قريبة أو وشيكة. فقد حشدوا نحو 300 ألف جندي احتياط مقابل 40 ألفا فقط عام 2014. ويجري التمهيد لهذه الحرب بقصف مهول لا سابق له من حيث كثافة النيران وحجم الخسائر في اليوم الواحد؛ فالهدف هذه المرة أكبر بكثير جدا، إذ تطمح إسرائيل إلى القضاء على بنية حركة حماس العسكرية، وتدمير قدراتها، وإزاحتها من السلطة، وخلق أمر واقع جديد نوعيا في القطاع. وما تدمير الأنفاق، الذي كان الهدف الرئيس في 2009 و2014، إلا جزء صغير من المستهدف هذه المرة. فلم يعد إضعاف قدرات "حماس"، والحفاظ على قوة الردع، كافيا لإسرائيل بعد اللطمة التي تلقاها جيشها في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما يقترن بها من شعور عميق بالإهانة وسعي محموم للثأر، وإصرار على تدمير "حماس".
وهذا هو أهم ما يتوقع أن تختلف فيه الحرب المحتملة عن سابقتيها؛ حيث تطمح إسرائيل لأن تكون نتائجها مختلفة تماما، وأن تؤدي إلى تغيير الوضع في غزة كليا وليس جزئيا. وهو هدف شديد الطموح، وليس سهلا تحقيقه في هذا النوع من الحروب التي تواجه فيها جيوش كبيرة ثقيلة الحركة مقاتلين مدربين لخوض الحروب المسماة "غير المتماثلة" في مناطق يعرفون تفاصيلها أكثر من المهاجمين.
- الاشتباكات التي حدثت خلال الهجومين السابقين تعد محدودة مقارنة بما يعلنه القادة الإسرائيليون عن الحرب البرية التي يقولون إنها قريبة أو وشيكة. فقد حشدوا نحو 300 ألف جندي احتياط مقابل 40 ألفا فقط عام 2014.
ولذلك نتوقع اختلافا في طبيعة المعارك هذه المرة هجوما ودفاعا؛ فالمفترض أن تصمم خطة الهجوم على أساس السعي للسيطرة على الأراضي التي تستطيع القوات الإسرائيلية التقدم فيها للانطلاق منها وتحقيق مزيد من التقدم، ما دام الهدف هو تغيير الوضع في القطاع جذريا. ويعني هذا عدم الاكتفاء بتوجيه ضربات محددة والعودة بخلاف ما حدث في 2009، و2014. والمفترض، في المقابل، أن يبدأ الدفاع عن غزة عند نقاط انطلاق المهاجين قبل أن يتوغلوا في العمق، سعيا لمنعهم من الاستحواذ على الأراضي والسيطرة عليها ومواصلة التقدم. وربما يكون الكمين الذي نصب لوحدة مدرعة إسرائيلية صغيرة، فور تحركها لغرض الاستطلاع غالبا، يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول وقتل جندي وإصابة 3 آخرين، "بروفة" للتكتيك الدفاعي هذه المرة.
ولكن تبقى القاعدة العامة في هذا النوع من الحروب سارية، وهي أن موقف المدافعين يكون أفضل في بداية الحرب، إذ يختبئون ويكمنون ويزرعون ألغاما في مواقع اختاروها بدقة، ويعتمدون على خفة حركتهم وقدرتهم على المناورة، ويفاجئون المهاجمين. ولهذا يتعين أن يكون عدد المهاجمين ثلاثة أمثال المدافعين على الأقل. وهذا يفسر الحشد العسكري الإسرائيلي غير المسبوق في أي من معارك غزة السابقة. لكن المهم ليس إجمالي جنود عدد الطرف المهاجم، بل حجم القوات الخاصة التي تتلقى تدريبات تمكنها من التعامل مع مقاتلين غير نظاميين.
ولأن هذه قاعدة معروفة، يستهدف القصف الإسرائيلي تدمير المباني السكنية وغيرها في المناطق التي ستبدأ الحرب فيها، وخاصة في شمال القطاع وغربه، وإرغام سكانها على النزوح، وإزالة أحياء بكاملها وتسويتها بالأرض، للحد من أخطار القتال في أماكن ضيقة كثيفة السكان، وتقليل العوائق التي ستواجه القوات المهاجمة على الأرض، وزيادة قدرتها على الحركة والتقدم بسرعة أكبر، وخفض أعداد القتلى والمصابين في صفوفها، أي تجنب حرب الشوارع التي يتفوق فيها المدافعون.
- تبقى القاعدة العامة في هذا النوع من الحروب سارية، وهي أن موقف المدافعين يكون أفضل في بداية الحرب، إذ يختبئون ويكمنون ويزرعون ألغاما في مواقع اختاروها بدقة، ويعتمدون على خفة حركتهم وقدرتهم على المناورة، ويفاجئون المهاجمين.
ومن شأن إعداد مسرح العمليات بهذه الطريقة أن يجعل مهمة القوات المهاجمة أقل صعوبة، من دون أن يعني ذلك أنها ستكون سهلة؛ فالركام الهائل الناتج من تدمير المباني يظل عائقا أمام المهاجمين، وإن بدرجة أقل نسبيا.
وفي كل الأحوال ستكون نتائج هذه الحرب مختلفة عما حققته إسرائيل في الهجومين البريين السابقين، وإن يبقى صعبا توقع المدى الذي سيبلغه هذا الاختلاف، وهل تستطيع إسرائيل تحقيق هدفها الطموح جدا أم أقل منه؟ فالصورة واضحة إلى حد كبير بشأن قدرات إسرائيل الهجومية، ولكنها ليست كذلك فيما يتعلق بقدرات "حماس" الدفاعية، والحدود التي سيصل إليها تحرك حلفائها في المنطقة. وربما تكون قدرتها على الصمود في مواجهة اجتياح لم تعهد مثله من قبل هي "كلمة السر" في هذه الحرب. ولا تقل أهمية قدرة المجتمع الإسرائيلي بدوره على الصمود. بمعنى آخر الاستعداد لتحمل خسائر كبيرة في حرب يتوقع أن تستمر لفترة أطول من كل الحروب السابقة منذ 1967، وليست حروب غزة فقط.
والحال أن هذا النوع من الحروب غير المتماثلة هو الأصعب من حيث إمكان توقع نتائجه، إذ تتجلى فيه فكرة ضعف القوة وقوة الضعف. ونجد ما يدل على ذلك في كثير من الحروب غير المتماثلة في العقود الأخيرة. ولكن الحالات التي صمد فيها المقاتلون المدافعون كانت أقل، مثل معركة ستالينغراد المشهورة خلال الحرب العالمية الثانية التي انتهت بانسحاب القوات الألمانية التي اجتاحت المدينة بعد أن فشلت في تثبيت سيطرتها عليها، وتكبدت خسائر كبيرة. لكن القوات المهاجمة نجحت في تحقيق أهدافها في عدد أكبر من الحروب. وما زالت حرب تحرير الموصل 2016-2017 بعد سيطرة مقاتلي داعش عليها حاضرة في الأذهان. ولكنها استغرقت أكثر من 6 أشهر رغم حشد نحو مئة ألف جندي في مواجهة أقل من ألفين، وكان للسكان المتعاونين مع القوات المهاجمة دور مهم في حسمها.
غير أنه رغم صعوبة توقع نتائج الحرب البرية المحتملة، فالأرجح وربما الأكيد أن تتمكن القوات الإسرائيلية من تغيير الوضع في القطاع. فإن لم تحقق الهدف الطموح المعلن، وصمد المدافعون في بعض المناطق وحالوا دون تغيير كامل لوضع القطاع، سيكون في إمكانها تحقيق تغيير أقل فيه عبر السيطرة على مساحة كبيرة في شماله وغربه، وإقامة منطقة عازلة. وفي كل الأحوال ستكون نتائج حرب 2023 مختلفة عن هجومي 2009 و2014.