نسمع الآن زعماء إسرائيليين، نتنياهو من بينهم، يستعيدون الهولوكوست. ما جرى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول يردّهم إلى الهولوكوست، ليست وحدها ولكن أيضا إلى 11 سبتمبر/ أيلول وداعش. وليسوا وحدهم يتكلمون كذلك. إسرائيل هي تقريبا يتيمة الهولوكوست، ملايين اليهود الذين سقطوا من مجزرة إلى أخرى، ومن عسف الى عسف في الماضي القريب، يمكنهم أن يجعلوا الهولوكوست اسما شاملا لهذا التاريخ الدموي، لكن الهولوكوست صارت من التاريخ، بفضل الإسرائيليين أنفسهم، لقد صارت التاريخ نفسه، وليست مجرد واقعة فيه، لقد صارت اسما آخر لليهود، وانضمت هكذا إلى الواقعة التوراتية، إذ يمكننا أن نتكلم عن الهولوكوست بوصفها التوراة الحديثة.
بنيت إسرائيل على الهولوكوست، لكن ثلاثة أرباع قرن من الزمان كانت جديرة بأن تجعل منها أسطورة، أسطورة إسرائيل الحديثة. كانت دامغة ونافذة بوصفها أسطورة، لكنها مع الوقت صارت أسطورة فحسب. ما عاد ممكنا أن يشترك فيها غير اليهود، ما عاد ممكنا أن تحملها الأجيال اللاحقة في العالم على عاتقها، أتكون بذلك ذنبا كونيا، لا يفتأ يبقى في رقبة الإنسانية.
لقد أدى قيام إسرائيل نفسها جوابا على الهولوكوست، وصفحة تقابله، إلى إبعاد الهولوكوست إلى التاريخ، إلى جعلها شيئا من الماضي. ثم أن قيام دولة باسم الهولوكوست، كان كافيا للتحرّر منها، كان جوابا عليها، لكنه قادر على إقصائها وأحيانا تناسيها. كان هذا بفضل الإسرائيليين أنفسهم الذين أرادوها أن تبقى أسطورة، وأن تقال دائما بلغة الماضي، أي بشعر الماضي وأغانيه. لقد أراد الاسرائيليون أيضا أن يطردوها، أن يبعدوا ما فيها من ذل وامتهان. صاروا الآن اقوى من أن يكونوا فقط ماضيا، صاروا أكبر من أن يكونوا مجرد وارثين لحبكة الذل هذه، أن يكونوا فقط يتامى هذا الامتهان. لقد تحرروا واستقاموا وبنوا دولة، وأقاموا تاريخا حديثا وأسطورة معاصرة، وباتت لهم مكانة تليدة، واسم كبير، فليس عليهم ان يبقوا رهائن ذلك الماضي، ومنبوذي ذلك الزمان.
كانت الهولوكوست دامغة ونافذة بوصفها أسطورة، لكنها مع الوقت صارت أسطورة فحسب. ما عاد ممكنا أن يشترك فيها غير اليهود، ما عاد ممكنا أن تحملها الأجيال اللاحقة في العالم على عاتقها
لقد انتهى الغيتو وانتهت عواقبه، وهم الآن قبلة في العالم وجزء من بنيانه. ثم أن قيام إسرائيل، بما قامت عليه من عنف وامتهان وإجلاء للآخرين، الذين لم يلبث أن عرف أنهم السكان الاصليون، وأنهم أهل فلسطين التاريخيين، قيام إسرائيل هذه، وما استتبعه قيامها من مجازر وغصب وإذلال، وما صارت إليه الدولة من كيان كولونيالي، وما استتبع ذلك من استيطان وتطهير عنصري. كل ذلك يكاد يستعيد الهولوكوست هذه المرة، على يد ضحاياه البعيدين أنفسهم، فالمجتمعات العربية في فلسطين، وخاصة تلك التي لحقت هزيمة 1967، هي تقريبا غيتوات وتساس كغيتوات. لا تخدم الهولوكوست عند ذلك إلا في التذكير بهذا الشبه، وتلك المقاربة. لم يعد الهولوكوست اسما آخر لإسرائيل، صار أحيانا فضيحتها، واستحق لذلك أن يتلقى إغفالا وربما تناسيا، لذا ابتعد، شيئا فشيئا، عن القاموس الراهن. صار أفضل له أن يكون تاريخا، من أن يصبح استعادة راهنة لتاريخ.
7 أكتوبر، من هذه الناحية، حرّر اسرائيل من حرج مقيم. لم يعد الهولوكوست هكذا مجرد ماض يحسن أن لا نضعه قبالة الحاضر، بل صار الحاضر نفسه دفعة واحدة. لم يكن ما جرى فيه بالنسبة إلى الإسرائيليين سوى الهولوكوست عائدا بدمغة وصيغة أخرى. هنا كان التاريخ يخدم، كان ممكنا تفادي كل الالتباسات التاريخية، كان ممكنا الالتفاف على التاريخ نفسه لتعود الهولوكوست هي اللحظة الراهنة، ليحمل ما جرى فورا اسم الهولوكوست. كان التاريخ هنا يخدم. لم يعد ضروريا بعد طرح الأسئلة المحرجة على التاريخ، لم يعد ضروريا التحقيق التاريخي، والمقابلة التاريخية والعودة الى الحاضر. صار الهولوكوست منبعثا من الأسطورة، هو الاسم الحاضر، هو اللحظة الراهنة. فجأة نظر العالم الغربي، ونظرت إسرائيل إلى نفسها كأنها تتعرض مجددا لذلك الظلم التاريخي، للاستضعاف ذاته. هكذا بدت "حماس "هي الظالم، وهي باستعارة أخرى النازية، وهي الهولوكوست. هكذا أخذ الغرب كله، والولايات المتحدة وأوروبا، تعاملها على أنها المستضعف وترسل لها الأسلحة والذخائر، هي الدولة التي بين الأقوى في العالم، لتستعين بها على منظمة صغيرة وضعيفة صار لها فجأة اسم آخر، ولا نفهم من ذلك الا أن، في لحظة ما، انقلب التاريخ تماما، وباتت الاستعارة التاريخية محله، وعاد الماضي ببنوده وتسمياته، ودخلنا هكذا في نوع من غيبوبة تاريخية، فباتت "حماس" هي النازية، في ما بدا مقتل الآلاف من الفلسطينيين انتصارا للعدل والحرية.
ما يجري في غزة الآن ليس فقط حربا على "حماس"، وليس فقط جوابا مدويا على 7 أكتوبر، بل هو أيضا حرب على الفلسطينيين في جملتهم
في لحظة واحدة وجدت اسرائيل في 7 أكتوبر، وبتلفيق تاريخي، هولوكوستها الضائعة، وأعادتها هذه، خارج أي مقابلة صحيحة، إلى لحظة دامغة، بل إلى لحظة أكثر اندماغا في تاريخ الغرب. لا بد أن نتنياهو هو الذي كسب شخصيا، والحكومة الإسرائيلية اليمينية، ربحا بهذه العودة إلى التاريخ. لقد استعادا الآن كل ما يفيضه عليهما ذلك التاريخ، ليس فقط من اعتبار، بل وتأييد الغرب الذي لا يبحث الآن فقط في إسرائيل عن صورة الرجل الأبيض، وإنما يستعيد في "حماس" ليس فقط القاعدة 11 سبتمبر، وإنما أيضا كل الفوبيا الإسلامية.
يمكننا الآن أن نفكر بأن 7 أكتوبر، بالإجماع الغربي الذي انصبّ على إسرائيل، قد يجعل هذه الأخيرة تبدأ من الآن، أو أن تواصل في الواقع نزاعا عريقا، قد يكون له محله في التاريخ الغربي، إذ أننا لا ننسى التاريخ الاستعماري في حملة الغرب على الفلسطينيين، أقول الفلسطينيين ولا أقول "حماس" فقط، فما يجري في غزة الآن ليس فقط حربا على "حماس"، وليس فقط جوابا مدويا على 7 أكتوبر، بل هو أيضا حرب على الفلسطينيين في جملتهم. حرب لا تخلو من استصغار وتهوين، أي، ولو من ناحية بعيدة، من نبذ عنصري.