هذا التفصيل هو جزء من كل فيما يخص الهيمنة الصهيونية وخطابها المعروف حول صناعة الأفلام في هوليوود، لكن الفيلم طرح بالتزامن مع العدوان الجاري على قطاع غزة، والذي اندلعت شرارته في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولا يزال مستمرا ويتسبّب بمقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، من الأطفال والنساء والشيوخ، مما دفع البعض إلى اعتبار ما يجري "حرب إبادة" و"عقابا جماعيا" ضدّ الفلسطينيين أنفسهم، وليس ضدّ "حماس"، مثلما يزعم الهدف المعلن من الحرب، وجميع هذه التحديثات والأهوال تظهر على شاشات ومنصات العالم على مدار الساعة في حين تحاول البروباغندا السياسية الأميركيةوالغربية طمس الحقائق وتضليلها.
فبات من الصعب مع نشر هذا البيان والمتزامن مع التوقيت المشتعل للحرب أن نتناول العمل بمعزل تام عن ازدواجية القيم والمعايير الإنسانية المتمثلة، خاصة أن التقاطعات بين وقائع الفيلم ومأساة اليوم متشابهة إلى حد كبير.
فكل من شاهد أو سيشاهد الفيلم سوف يربط تلقائيا بين السردية التاريخية المطروحة فيه، بكل ما فيها من جشع وتصفية دموية واحتيال وجرائم إبادة وتعتيم، والنزاع على الملكية وابتكار الطرق الملتوية والمخادعة لأبلسة أفراد القبيلة، وبين السردية الآنية المنغمسة في دوامة لا تنتهي من الظلم في غزة.
فتصبح قبيلة أوساج مسارا موازيا للمأساة الفلسطينية ولا تختلف عنها سوى في السياقات التاريخية والثقافية، أما في عمقها الإنساني فهي مطابقة بشكل كبير وفي عمقها السياسي تبقى تداعيات القضية الفلسطينية منذ 75 عاما ذات تعقيدات إقليمية أكبر.
الملحمة وشخوصها
عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان "كان" في دورته الأخيرة من شهر مايو/ أيار الماضي وقوبل بحفاوة بالغة ورضا نقدي رغم عدم ترشحه ضمن مسابقة السعفة الذهبية.
تجتمع عناصر الغموض والجريمة والحب والعنف والصراع على البقاء في حكاية مدتها نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة، و تلك إحدى بصمات مارتن سكورسيزي إذ لا نستطيع تصنيف طول أفلامه زمنيا كضرورة إيجابية أو سلبية بالمطلق، خاصة أن سكورسيزي لا يخضع لمعيار الوقت أمام الفرصة للتركيز على تطوير شخصيات معقدة وقادمة من خلفية روائية غنية بمزيد من التفصيل والعمق، ليبتكر نهجا في أفلامه قائما بالدرجة الأولى على "تحدي الانتباه"، لذاك تبقى المسألة تقديرية حسب السياق والمضمون في الفيلم.
لكن في حالة "قتلة زهور القمر" كان من الممكن اختزاله إلى ساعتين ونصف على الأقل، رغم أن لا شيء يغدو هباء منثورا، لكنه مر بتباطؤ في الساعة الأخيرة من الفيلم، فكان بإمكان هذه المساحة الزمنية المتبقية والمطبوخة على نار هادئة أن تبين لنا خلفية شخصية ليام هايل (يقوم بالدور روبرت دي نيرو-في تعاونه التاسع مع سكورسيزي والذي بدأ بالفيلم الأيقوني "سائق التاكسي" - 1976). ليام التاجر الثري وصاحب المزرعة الملقب بالكينغ (الملك)، والذي يحرّض ابن أخته ارنست بوركهارت (تمثيل ليوناردو دي كابريو ) الطباخ السابق في صفوف الجيش الأميركي بالحرب العالمية الأولى للزواج من وريثة العائلة والتخلص من أفراد أسرتها تدريجيا بشتى الطرق: قتل، حرق، تسميم إلخ.
شخصية ليام هيل تقدم نفسها منذ بداية السرد وحتى نهايته في إطار واحد وأداء إيقاعي متساو دون التبرير للتراكمات التي آلت إليها هذه الشخصية حتى وصلت لكل هذا الشر المطلق. وكأن سكورسيزي من باب رد الاعتبار لسكان أميركا الأصليين لا يرغب في تصدير تبريرات إنسانية وتفصيلات ميلودرامية لشخصيات خارج إطار قبيلة أوساج وتحديدا الشخصيات ذات النفوذ والمباشرة في الأذى والتي تتقاطع بشكل كبير مع ممارسات العدو الإسرائيلي في دمويته الوحشية تجاه الأطفال والشيوخ والنساء واغتصاب الأرض.
وعلى الجانب الأخر يبرع سكورسيزي في إظهار ليوناردو دي كابريو من خلال شخصية البطل المأزوم وقد ظهر ذلك بصورة جلية في أعمالهما المشتركة السابقة مثل"شاتر آيلند" و"الملاح" و"المتوفي".
في شخصية أرنست قام ديكابريو بتبديل سحنته الصبيانية وقسمات وجهه البريئة، فاستعان هذه المرة بأنف ضخم وأسنان مزيفة لارتداء الشخصية العابسة والمشتتة بين الغلظة والحنو الحذر والبلاهة.
يتلقى أرنست الأوامر من خاله بخضوع أحيانا وأحيانا أخرى لاستعارة القوة المفقودة بأشكالها الهمجية المروعة وحين يتأرجح شعوره بين الجشع وتصفية أفراد عائلة زوجته تباعا وبين العاطفة وجلد الذات، يهمس له ليام هيل قائلا: "وأنا أيضا أحبهم لكن زمانهم ولى، يجب أن يرحلوا!". عبارة تختزل مفهوم تفكيك مصائر الناس وسلبهم أبسط حقوقهم المدنية وحقهم في الحياة، ببساطة ذوبانهم وكأنهم لم يكونوا يوما هنا. عبارة تجعلك تكز على أسنانك وتتمتم: ما أشبه اليوم بالأمس!
التطهر الأخلاقي
خلال ذلك يتصاعد دور الشخصية المحورية الثالثة في الفيلم، مولي زوجة أرنست في تغيير الأحداث (تقوم بالدور الممثلة ليلي غلادستون) وريثة العائلة في القبيلة والمصابة بداء السكري والتي فقدت جدتها وشقيقاتها تباعا وهزل جسمها بسبب مضاعفات مرضها ومحاولة تسميمها.مولي هي الجوهر العاطفي في حكاية مترامية الأطراف، تغادر الفيلم ولا يغادرك وجهها الحميم وعيناها الناعستان المنصهرتان في الشجن.