لا تزال حالة عدم اليقين تشكل جزءا أساسيا من الصورة الكلية للحرب بين إسرائيل وحركة "حماس"، ولا سيما لجهة موعد الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة وحدوده واحتمال أن يؤدي مثل هذا الاجتياح تبعا لحجمه ونتائجه لتوسع الحرب إلى جبهات أخرى أهمها جبهة الحدود بين لبنان وإسرائيل.
لكن في المقابل يمكن القول وفقا للمشهد الميداني والرسائل السياسية والدبلوماسية المتبادلة بين أطراف الحرب أن تطوراتها رست على ستاتيكو معين هو بطبيعة الحال ستاتيكو ظرفي مرشح للسقوط في أي لحظة تبعا لمتغيرات الميدان والأروقة الدبلوماسية.
إذاك لا يمكن النظر إلى الجبهة بين "حزب الله" وإسرائيل على أنها بالمطلق جبهة ثانية أو خلفية للجبهة الرئيسة بين إسرائيل و"حماس". بمعنى أن تطورات الجبهة على الحدود الجنوبية للبنان تعكس إلى حد بعيد معادلات موازين القوى في هذه الحرب، وتحديدا بين طرفيها غير المباشرين، أي الولايات المتحدة وإيران.
بالتالي، فإن الاشتباكات والقصف المتبادل بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي هو في وتيرته ومواقيته انعكاس للخريطة السياسية والدبلوماسية للحرب في ما يخص حدود انخراط إيران فيها بما أنه انخراط لا يمكن النظر إليه نظرة عسكرية وحسب، بل إن طهران باشرت في توظيف هذه الحرب ضمن استراتيجيتها الدبلوماسية لجهة مفاوضاتها المفتوحة مع الولايات المتحدة.
والحال لا يمكن الفصل بين حركة "حزب الله" على الحدود الجنوبية للبنان والاستراتيجية الدبلوماسية الإيرانية في السياق الإجمالي للحرب. وهو ما يدفع في حدود معينة إلى الفصل بين جبهة جنوب لبنان وجبهة قطاع غزة. إي إنه لا يمكن الربط بين هاتين الجبهتين على نحو كلي وإن كان الفصل بينهما بالمطلق غير ممكن.
رسائل عبداللهيان
عوامل كثيرة ومتداخلة تدفع في هذا الاتجاه؛ فمن ناحية كان لافتا إعلان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان عن تلقي طهران رسالتين أميركيتين على الأقل، ومن محورين أساسيين، تؤكد أن الولايات المتحدة غير راغبة في توسيع الحرب، وتطالب إيران بضبط النفس. كما أشار إلى أن مبادرة سلطنة عمان لعودة جميع الأطراف إلى الاتفاق النووي لا تزال مطروحة.
ولا شك أن مجرد إعلان طهران عن هذه الرسائل الأميركية وتأكيد استمرار الوساطة العمانية تلك يؤشران إلى أن إيران مستعدة لـ"استثمار" الأزمة دبلوماسيا، أي إنها مستعدة للتفاوض مع واشنطن بشأنها لرسم خطوطها الحمراء وترتيبات "اليوم التالي" للحرب. وهو ما يعني عمليا أن طهران سلمت أو قبلت بأن الوضع في قطاع غزة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول لن يكون كما قبله، وهو ما قاله الأربعاء الرئيس الأميركي جو بايدن.
طبعا لا يمكن الظن أن إيران تريد أو تقبل بـ"سحق حماس" لكنها مستعدة لأن تقبل بأمر واقع جديد في قطاع غزة عنوانه تقليص الحضور العسكري والسياسي للحركة فيه وفقا لترتيب سياسي ودبلوماسي يكون للأمم المتحدة دور رئيس فيه. وهو ما يحيل إلى ترتيبات ما بعد حرب يوليو/تموز 2006 بين "حزب الله" وإسرائيل لناحية صدور القرار 1701 وانتشار قوات دولية إضافية في الجنوب اللبناني ضمن نطاق جغرافي محظور "نظريا" على الحزب بما يشبه المنطقة الآمنة.
لكن في المقابل فإن هذه الترتيبات لم تضعف الحزب عسكريا وسياسيا طيلة السنوات اللاحقة وهو ما يمكن أن يتكرر مع "حماس" لناحية حضورها السياسي والعسكري على الساحة الفلسطينية وإن كانت ستضطر إلى التأقلم مع واقع جديد.
بيد أنه لا يمكن إغفال أن الظرف الإقليمي والدولي المحيط بحرب غزة الآن أكثر تعقيدا من ذاك الذي أحاط بحرب يوليو/تموز، وهو ما يجعل حماس أمام تحد أصعب من ذاك الذي واجهه "الحزب" بعد 2006. لكن وإن قبلت إيران بالحد من الحضور العسكري لـ "حماس" فهي قطعا لن تقبل بإضعاف دورها السياسي على الساحة الفلسطينية لأنها ورقة أساسية بيدها في لحظة انتقالية على المستوى السياسي الفلسطيني ككل.
... ورسالة نصرالله
من ناحية "حزب الله" كان لافتا الأربعاء 25 أكتوبر/تشرين الأول بدء الظهور التدريجي للأمين العام للحزب، حسن نصرالله، من خلال رسالة وجهها إلى الوحدات والمؤسسات الإعلامية في "حزب الله" لاعتماد "تسمية شهداء الحزب بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول بالشهداء على طريق القدس". ثم وزع "حزب الله" خبرا للقاء جمع نصرالله مع رئيس حركة "الجهاد الإسلامي" زياد النخالة، ونائب رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" صالح العاروري.
والحال فإن هاتين الخطوتين من قبل نصرالله، فضلا عن حركة سياسية مستجدة لحلفاء "الحزب" وبدفع منه، تؤشران إلى مرحلة جديدة في المواجهة على الحدود الجنوبية وفي تموضع الحزب من الحرب ككل؛ فالرسالة التي وزعت بخط يد نصرالله لإضفاء طابع رمزي وعاطفي عليها لم تأت نهائيا على ذكر "حماس" والحرب في قطاع غزة، بل تحدثت عن "التضحيات التي تقدم في سبيل الله على حدودنا اللبنانية"، ولم تتضمن عبارات مثل "نصرة غزة"، أو "نصرة فلسطين"، على جاري أدبيات "الحزب". وهو ما يحيل إلى محاولة الحزب الفصل بين الجبهتين في إطار ما ذكر آنفا، أو أقله فإنه يفترض إخضاع هذا الاحتمال للمتابعة في الأيام الآتية. لكن ما يعزز هذا الاحتمال، إضافة إلى قراءة الحركة والمواقف الإيرانية، أن "الظهور" الأول لنصرالله منذ بدء الحرب تزامن مع تطورات على الحدود الجنوبية وعلى الساحة السياسية الداخلية.