إذا كان من درس يمكن استخلاصه من الأحداث المروعة التي اكتنفت هجوم "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فهو تعزيز الانقسامات العميقة القائمة بين القوى الكبرى في العالم في ما يتعلق بكيفية التعامل مع القضايا الأمنية الرئيسة.
ومنذ وقت ليس ببعيد، استطاعت منظمات دولية مثل الأمم المتحدة مواجهة تحديات كانت تشكل تهديدا خطيرا للأمن العالمي، وتمكنت من التوصل إلى مستوى معين من الحلول السياسية. على سبيل المثال، في عام 2011، عندما شكل الدكتاتور الليبي العقيد معمر القذافي تهديدا كبيرا للسكان المدنيين في بنغازي، تمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من تحقيق إجماع واسع النطاق على ضرورة منع وقوع كارثة إنسانية. وعلى نحو مماثل، خلال المراحل الأولى من الحرب الأهلية السورية، أدانت الأمم المتحدة التكتيكات الدموية التي استخدمها نظام الرئيس بشار الأسد ضد مواطنيه، وإن تكُ هذه الاستجابة الدولية قد فشلت في نهاية المطاف في منع جرائم الحرب واسعة النطاق التي يرتكبها نظام الأسد.
أما اليوم، فإن احتمال ظهور أي إجماع دولي من هذا القبيل بشأن الأزمة المتفاقمة في غزة يكاد يكون مستحيلا نظرا للانقسامات العميقة التي ظهرت بالفعل في أعقاب الهجوم القاتل الذي شنته حماس ضد إسرائيل في وقت سابق من هذا الشهر، والذي أسفر عن مقتل ما يقدر بنحو 1400 شخص من الإسرائيليين وأسر أكثر من 200 إسرائيلي لدى "حماس".
لقد أدى رد الجيش الاسرائيلي الصارم على الهجوم حتى الآن إلى تسوية مساحات شاسعة من غزة بالأرض، وقتل أكثر من 7000 فلسطيني، فيما تستمر الحكومة الإسرائيلية في سعيها لتحقيق هدفها المعلن المتمثل في محو "حماس" عن على وجه الأرض.
وتفاقم الصراع، الذي يُخشى من احتمال أن يشمل المنطقة بأكملها، بسبب الاشتباكات الحدودية بين الإسرائيليين وميليشيا "حزب الله" المدعومة من إيران في جنوب لبنان، وقد أخذ بعدا جديدا حين أصدرت إيران تحذيرا صارخا من إمكان "توسيع جبهات الحرب" إذا استمر الهجوم الإسرائيلي على غزة.
احتمال ظهور أي إجماع دولي بشأن الأزمة المتفاقمة في غزة يكاد يكون مستحيلا نظرا للانقسامات العميقة التي ظهرت بالفعل في أعقاب الهجوم القاتل الذي شنته "حماس" على إسرائيل
وجاء تحذير وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، في مقابلة مع قناة "الجزيرة"، بعد سفره إلى قطر للقاء كبار المسؤولين القطريين ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية.
وحذر كبير الدبلوماسيين الإيرانيين من أن "إيران لا يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي وتكتفي بمراقبة كيف تتطور الأمور على الأرض"، مشيرا إلى أن احتمال فتح جبهة حرب جديدة يتزايد كل ساعة.
وفي مثل هذه الظروف، كانت القوى العالمية الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين في السابق تضع خلافاتها جانبا وتتعاون على إيجاد صيغة لنزع فتيل التوترات. ولكن ليس هذه المرة، فبدلا من العمل من أجل التوصل إلى توافق في الآراء لمنع تصاعد الصراع، يبدو أن زعماء العالم أكثر تركيزا على التأكيد على أولوياتهم الفردية بدلا من السعي لتحقيق الصالح العام.
أحد الردود المفاجئة على هجوم "حماس" جاء من واشنطن، حيث كانت لإدارة بايدن تاريخيا خلافات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي المتشدد بنيامين نتنياهو. وعلى الرغم من القلق العميق لدى كثير من الديمقراطيين بشأن أجندة نتنياهو السياسية المتشددة، وخاصة توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، فقد دعمت واشنطن إسرائيل بقوة في أعقاب هجوم "حماس". وفي الواقع، لم تكتف الولايات المتحدة بإرسال مجموعة قتالية واحدة من حاملات الطائرات إلى المنطقة، بل عززتها بثانية، لتكون رادعا لدول مثل إيران، التي قد تسعى إلى استغلال الأزمة لمزيد من التصعيد.
كما اتخذ الرئيس جو بايدن موقفا حازما بشكل غير متوقع في تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. ومع ذلك، فإن دعم واشنطن للغزو الإسرائيلي المقترح لغزة قد تراجع قليلا بسبب المخاوف بشأن مصير الرهائن الإسرائيليين المتبقين الذين تحتجزهم "حماس".
أحد الردود المفاجئة على هجوم "حماس" جاء من واشنطن، حيث كانت لإدارة بايدن تاريخيا خلافات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي المتشدد بنيامين نتنياهو
وانعكست هذه المخاوف في البيان الذي أصدره الزعماء الغربيون عقب إطلاق سراح الرهينتين الأوليين، وهما أم أميركية وابنتها، في نهاية الأسبوع. ورحب بيان مشترك صادر عن بايدن ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، بإطلاق سراح الرهينتين لدى "حماس"، وطالبوا بتحرير الرهائن المتبقين.
وجاء في البيان أن "الزعماء أكدوا مجددا دعمهم لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب وطالبوا بالالتزام بالقانون الإنساني الدولي، بما في ذلك حماية المدنيين، ورحبوا بالإفراج عن الرهينتين وطالبوا بالإفراج الفوري عن جميع الرهائن المتبقين. والتزموا بالتنسيق الوثيق لدعم مواطنيهم في المنطقة، ولا سيما أولئك الذين يرغبون في مغادرة غزة".
وبينما أشار البيان المشترك إلى وجود درجة من الإجماع بين الزعماء الغربيين بشأن غزة وبعد الأزمة، سرعان ما برزت التوترات داخل التحالف بعد أن دعمت فرنسا والاتحاد الأوروبي الدعوة إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس حتى تحل أزمة الرهائن، فيما واصلت الولايات المتحدة وبريطانيا دعم حق إسرائيل في استخدام القوة العسكرية للدفاع عن نفسها.
ومع ذلك، فإن موقف الزعماء الغربيين واستعدادهم إعلان دعمهم لإسرائيل يقف على النقيض مع الموقف الذي تبنته الصين وروسيا، اللتان زاد نفوذهما بشكل ملحوظ في المنطقة في السنوات الأخيرة، حيث تعززت مكانة موسكو في الشرق الأوسط من خلال مساهمتها العسكرية في إبقاء نظام الأسد في السلطة خلال الصراع السوري، في حين انعكس نفوذ الصين المتزايد في الدور الذي لعبته في تأمين التقارب الدبلوماسي بين إيران والمملكة العربية السعودية.
وفي مواجهة الاستجابة العسكرية الأميركية القوية للأزمة، قامت بكين وموسكو، بدلا من الرد عسكريا على الأزمة، بتوحيد قواهما للعمل معا على تأسيس حل الدولتين لإسرائيل والفلسطينيين.
وكان هذا الاختلاف في النهج واضحا بوضوح في أعقاب الاجتماع الأخير في الدوحة بين تشاي جون، مبعوث الصين الخاص إلى الشرق الأوسط، وميخائيل بوغدانوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا.
• في مواجهة الاستجابة العسكرية الأميركية القوية للأزمة، قامت بكين وموسكو، بدلا من الرد عسكريا على الأزمة، بتوحيد قواهما للعمل معا على تأسيس حل الدولتين لإسرائيل والفلسطينيين
وقال تشاي في بيان أصدرته وزارة الخارجية الصينية: "السبب الأساسي للوضع الحالي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو أن الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني لم يتم ضمانها".
وعلى الرغم من أن احتمال إجراء محادثات سلام مستقبلية بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الدائم يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر، إلا أن التطور المهم يكمن في الموقف الذي اتخذته هاتان القوتان الرئيستان، اللتان بدلا من تأييد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، اختارتا دعم حل القضية الفلسطينية. وقد تحمل هذه المعارضة المتعمدة لموقف الولايات المتحدة والدول الغربية آثارا عميقة على النتيجة النهائية للصراع.