في المواجهات المسلحة الأخيرة بين "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وبعض الزعامات المحلية في محافظة دير الزور السورية، يُمكن للمراقب أن يعثر على أعداد لا تحصى من "الحروب الصغيرة"، المتداخلة والمركبة مع بعضها البعض، الجارية في وقت ومكان واحد، لكن أيضاً المغلفة بطلاء كثيف من خطابات النُخب الثقافية والسياسية والاجتماعية، المعتدة بالتقية الكلامية، الساعية لطمس "الهويات الأهلية" في ذلك الصراع، ونفياً دائماً لأن يكون ما يجري حتى "حربا".
فالصدامات تلك كانت أولاً مواجهة عسكرية قومية النزعة، كردية/عربية، متعامدة مع "مواجهة" أخرى مدينية/ريفية. طبقات واسعة من المجتمعات العربية في تلك المنطقة رفضت "الانجرار والخضوع" لهبة زعماء العشائر وعصبيتهم العائلية والقبلية والمناطقية، وعلى جوانبها كان ثمة حساسيات قبلية واضحة. وبينما كانت زعمات قبلية ما في الريف الجنوبي والشرقي لمحافظة دير الزور تدعوا للحرب والحمية، كانت زعامات قبلية ومحلية أخرى، خصوصا من مناطق الجزيرة العليا، صامتة، وغالباً مليئة بالغبطة؛ لأنها كانت ترى في تلك المواجهة أداة لإضعاف تلك القبائل، وتالياً إعادة ترتيب "سلم تصنيف الزعمات القبلية" والمحلية، وإمكانية لتغيير مجريات تاريخية/اجتماعية سابقة.
لا ينتهي الأمر هنا. على سبيل المثال، بينما كانت التشكيلات العسكرية والأجهزة الدعائية للنظام السوري تشارك تلك الزعامات القبلية في حربها ضد "قوات سوريا الديمقراطية" في محافظة دير الزور، كان حلفاء آخرون للزعمات القبلية هذه يهاجمون نقاط تمركز لقوات النظام السوري في محافظة الحسكة. وفي اطار كوميديا سوداء أصلية في الحالة السورية، فأن تلك النقاط العسكرية كانت مشتركة بين قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية. وفي الوقت الذي كانت الميليشيا الإيرانية المتمركزة في غرب نهر الفرات تدعم الزعامات القبلية، فأن حليفتها الروسية كانت تقصف التجمعات الحليفة لتلك الزعمات القبلية في مناطق قريبة بالطائرات.
الصدامات تلك كانت أولاً مواجهة عسكرية قومية النزعة، كردية/عربية، متعامدة مع "مواجهة" أخرى مدينية/ريفية. طبقات واسعة من المجتمعات العربية في تلك المنطقة رفضت "الانجرار والخضوع" لهبة زعماء العشائر وعصبيتهم العائلية والقبلية والمناطقية، وعلى جوانبها كان ثمة حساسيات قبلية واضحة
في الوقت عينه، كانت زعمات قبلية ومجموعات سياسية سورية مقربة من تُركيا تُصعد من وتيرة الخطاب والصراع الطائفي "السُني"، متهمة قوات سوريا الديمقراطية بالتحالف مع إيران والميليشيات الطائفية "الشيعية"، وما أسمته "النظام العلوي"، فأنها كانت تدعو النظام السوري إلى القيام بواجبها ومحق قوات سوريا الديمقراطية، ومشاركتها في هذه "المهمة".
بين الثنايا أيضاً، كان يُمكن العثور على صراع طبقي واضح، فالفقراء من أبناء القبائل العربية كانوا حاضرين بكثافة ضمن صفوف "قوات سوريا الديمقراطية"، وخاضوا المواجهة ضد الزعامات القبلية بحمية تامة، بينما كانت طبقة السياسيين والأثرياء الأكراد يسعون جاهدين للاستفادة من هذه المواجهة لإحراز مواقع اقتصادية وسياسية على حساب "سوريا الديمقراطية" وخياراتها. وضمن اللوحة كانت مجموعات قبلية وشبكات التجارة المحلية تسعى جاهدة للحفاظ على امتيازاتها ومواقعها في تلك الجغرافيا، بالذات على عُقد وممرات التهريب، وتستميت في سبيل منع نظرائها الاخرين من الاستيلاء على اشكال نفوذها تلك، وعبر تعاون وتواطؤ مع كُل المنخرطين في المواجهات المسلحة. كذلك كان ثمة صراع واضح بين طبقة المحافظين الدينيين والاجتماعيين، المصطفين بالتمام مع الزعمات القبلية، في مواجهة الطبقات الأكثر مدينية والأفضل تعليماً وحداثة، من عرب وأكراد.
كامل اللوحة سابقة الذكر، بكل تفاصيلها الميدانية وتعقيداتها الأهلية وتداخلاتها السياسية، ليست حكرا على المواجهة الأخيرة فحسب، وليس حتى على محافظة دير الزور وعموم شمال شرق سوريا. فهي بوضوح تكثيف لما يعيشه إجمال سوريا راهناً: حروب أهلية ومناطقية واقتصادية وطبقية، متداخلة ومركبة فيما بينها، عدمية وخالية تقريبا من أية قيمة سياسية وحياتية مضافة، صفرية الهوية والمحصلة، خاضعة لمجموعة ضخمة من المستفيدين وقادة الميليشيات والمحاور، بتغطية ومزاحمة من الدول الإقليمية والقوى الدولية.
هذا بالضبط ما يجري مثلا في السويداء حاليا، وإن بحساسية وحسابات بالغة الحذر، حتى الآن على الأقل. ومثلها هي الأوضاع في منطقة إدلب ومناطق سيطرة النظام السوري ونظيرتها المُحتلة من قبل تركيا. تلك التي وإن كانت "هادئة" راهنا، إلا أنها قابلة للاشتعال والتصاعد على مثل هذه البنية في أي وقت قريب. فما جرى في محافظة دير الزور، هو شكل الظرف السوري الحالي، ومنطق الأحوال السورية وطبيعة الحياة فيه.
لكن البُعد الأكثر تراجيدية في هذا المشهد السوري، كامن في طبيعة وآلية تعامل النُخب السياسية والثقافية والاجتماعية السورية مع هذا الوضع.
كانت معارك دير الزور تكثيفا لما يعيشه إجمال سوريا راهناً: حروب أهلية ومناطقية واقتصادية وطبقية، متداخلة ومركبة فيما بينها، عدمية وخالية تقريبا من أية قيمة سياسية وحياتية مضافة، صفرية الهوية والمحصلة، خاضعة لمجموعة ضخمة من المستفيدين وقادة الميليشيات والمحاور، بتغطية ومزاحمة من الدول الإقليمية والقوى الدولية
وفيما تغرق البلاد في وحل كل هذه الصراعات البينية، تتهافت تلك النُخب وتغطي نفسها بنوعية من الخطابات والشعارات الزائفة، مستنجدة بمزيج مريع من الطهرانية والتقية والفوقية السياسية، التي ما تُنتج شيئاً خلا تعميق تلك الصراعات وإزالة أي أفق عنها. لأن الشرط الأولي والحتمي لتفكيكها، أو حتى التخفيف منها، هو الاعتراف بها أولا، مواجهتها ومصالحتها كواقع سوري حتمي. ذلك الشرط الذي قد يرسم مستقبلاً أفقاً أخرى لنوعية العلاقة بين كل تلك التفاصيل السورية، واستعدادها الدائم والدؤوب لأن تكون صراعية وصفرية في أي وقت. لأن تنحاز وتختار الحرب كوسيلة وحدة للمداولة.
يغرق السوريون في هذه العدمية السياسية، لأنهم خلال أكثر من عقد كانوا منتجات/ضحايا تلك الثنائية، حقيقة حروب الكل ضد الكل، والزيف الذي تلوذ بها النُخب الحاكمة والمعارضة على حد سواء لتغطية تلك الحروب، وأولاً تغطية أنفسها، كتشكيلات غير جديرة بإدارة دفة كل هذا التعقيدات السورية، وغير المستعدة لأن تعترف بتلك الوقائع، وبهشاشة قدراتها على الإحاطة بها.