الكتابة، شأن القراءة، هي كشفٌ وتَغَرُّبٌ وخروج.
الكتابة دعوة إلى وليمة ملَكية نخرج منها مع شعور بأنّ أشهى ما فيها قد فاتَنا، وأنّ الإعادة محتّمة.
الكتابة هي، أكثر من القراءة، انتظارٌ
ووعدٌ لا يكتمل.
لا أحبّ ما كتبتُ لأنه ليس تماماً ما أردتُ قولَه، ولأنّ المكتوبَ سرق بعضَ الحلمِ وترك ما يُشبه الخيبة:
هل الكتابةُ رحلةٌ في صحراء؟
مع الكتابة نتعلّم أنّ الإقامة على عتبة بيت الشعر غوايةٌ خطرة. كأنها وقوفٌ على عتبة مقدّس قد يمكن امتلاكه. لكنّ امتلاكَه يُسقِط السرّ ويُلغي القداسة ويُنهي المغامرة. هي حالةُ تأرجحٍ مُستمرّة ما دمنا لا نشفى ما لم نكتب دهشتَنا.
لكن كيف نقبض على الدهشة؟
أُصغي إلى نداءاتٍ سحرية. تعبرني ولا أجرؤ على عبورها. إن عبرتُها ضعتُ أو ضيّعتُها. لا يُعبَرُ الشعر. لذلك حين أكتب النّقد لا أتطلّع إلى عبور القصيدة بل إلى طوافٍ واستسلامٍ لمَوْج المعنى ونِداء المَفارِق.
في كلّ قصيدةٍ قصة. لكنّ كتابةَ القصة في القصيدة يُسقِط سحرَها. إقرأِ القصةَ خلف القصيدة ولا تلمَسْها. اقرأْها بخفايا الشعور.
اقرأها كما تَقرأ الحلم، كما تقرأ الأماني.
الكتابةُ هي غوايةُ التجربة بين الرغبة المباشرة في دخول القصة وتَرَفِ رؤيتها دون رؤيتها.
قصةُ حياتي قصةٌ كتبتها لحياتي، وحياةٌ وجدتُ أنها حياتي ورثتُها زرعتُها حرَثْتُها ساءلْتُها وما عرفتُ سرَّها، وما كشفت جذرَها. هل صنعتُ حياتي أم صنعتني؟ أخذتني حيث لم أطلبْ ولم أصِل.
الكتابة، في بعض وجوهها خطر. طريقٌ لا نعرفُ نهايتَه ولا نعرف إن كان منه وصول. طريقٌ يبدأ ولا نعرف أين ينتهي وكيف؟ رحلةٌ معكوسة.
أكتبُ أستدعي أزمنةً وأمكنة، أفعالاً وصوراً، أعيد ترتيبَها، أُصحِّحُها، أُفرِغها، أملؤها، أمحوها أُجدّدها. الأفعال، أدخل فيها أو أقفزُ عنها. عن أيّ شيء أبحث؟ الكتابة بحث عن سر ّ الكتابة أكثرُ من القراءة استفهامٌ، استقصاء، عذابُ السرّ الذي لا يُسْلِم مفتاحَه ولا بدّ من المجازفة باقتحامه.
رحلة في الأدغال الغامضة المتداخلة لأفكارنا وأحلامِنا وذكرياتنا وقراءاتنا. رحلةٌ يتداخل فيها الحلم والواقع.
الكتابةُ رحلةٌ تضيع فيها الحدود بين الآفاق الشاسعة المتداخلة لأحلامنا وبين مجهول أيامنا الآتية.
الكتابةُ رحلةٌ تضيع فيها الحدود بين الوهم والواقع. رحلةٌ تتخفّى فيها الحقائق وتباغِتُنا بكلّ الأقنعة أو تأخذُنا في المتاهات.
ولا تُسلِم أسرارها إلاّ لِمَن تُعيدُ تكوينَه.
نتهيّأ للكتابة، نكتب عبارة. كلُّ ما يليها رجراج يَحتَمِل الحذف والتغيير.
رسالة مرسَلة إلى مرسَلٍ إليه رَجراجٍ غامض ممكن غيرِ مُحدّد في الزمان والمكان.
أكتبُ أستدعي أزمنةً وأمكنة، أفعالاً وصوراً، أعيد ترتيبَها، أُصحِّحُها، أُفرِغها، أملؤها، أمحوها أُجدّدها. الأفعال، أدخل فيها أو أقفزُ عنها. عن أيّ شيء أبحث؟ الكتابة بحث عن سر ّ الكتابة أكثرُ من القراءة استفهامٌ، استقصاء، عذابُ السرّ الذي لا يُسْلِم مفتاحَه ولا بدّ من المجازفة باقتحامه.
القراءة بناء؛ بناءٌ لا يكتمل، ولكنه ينهض ويحضر. القراءة رحلةُ اكتشاف. الكتابة وَهدةُ اعتراف. اعتراف بماذا؟ اعترافٌ بنقصان، بما لم نَقُمْ به. بما حَلُمنا به، بما ظلّ بعيداً مع أنّه بدا ممكِناً.
بما راوَغ واستدرج وضَيَّعنا.
ولكنّنا نكتب، لأننا لا نتنازل عن حلم الوصول، وشهوةِ اكتشاف الذّات وما تخبئُه وما تصبو إليه وما يعذّبها وما تخشاه. لأننا نحتاج إلى هذا الاكتشاف لنعرفَ موقعَنا في المكان والزّمان ونعرفَ أين تقودنا الطريق. ولكنّ الطريق لا تُعلِن عن وجهتها. نكتب لنرسمَ لتاريخنا الجريحِ أو المُضيء
وجهاً لائقاً ونُحَجّب جراحَنا أو نُعظِّمُها.
نكتب لنكتشفَ حوارَ الكلمات وعناقَها وظلالَ تاريخها، ونعرفَ كيف تكشفُنا وتُعلنُ أسرارنا وتفضح خفايانا وتجعلنا صفحةً مقروءة، فنملأ الصفحاتِ بالأحلام والأخيلة.
نكتب لنعلنَ عن حضورنا، وإن عابراً، ونكشف عن أسرارٍ أوْجَعَها الخَفاء وحكاياتٍ أدْمَتْ أيامَنا أو أضاءتها. نكتب لنتأمّلَ وجوهَنا وأسرارَنا في هذه المرآة ونرسل إلى المستقبل
إشاراتٍ ووعوداً.
نكتب لأنّ الكتابةَ مرآتُنا، وإن لم تَصدُقْ في كلّ مرّة.
نكتب لأنّ الكتابةَ صوتُ الأعماق الدفينة المُحَجَّبَة.
نكتب لأنّ الكتابةَ حلمُ اليقظة المُعلَن ووعدُ الأيّام الآتية.
نكتب ردّا على الزّمن الذي ينزلق صامِتاً ولا يُنذرُنا. الزّمن الذي يخون أحلامَنا ويُرغمُنا على هجرِها وإيداعِها بين الصّفحات.