تظاهرة ثقافية باريسية تعرض "ما تقدّمه فلسطين إلى العالم"https://www.majalla.com/node/302896/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%85%D8%A7-%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%91%D9%85%D9%87-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85
باريس: حين تخرج من معرض "ما تقدّمه فلسطين إلى العالم" المقام في معهد العالم العربي بباريس ستشعر أنّك لم تعد كما كنت قبل أن تدخله، فهناك الكثير من الفنّ والجمال والحياة مما قد يحفّز فيك الشعور بأنّ العالم ليس هو ذلك الذي ترسمه لنا وسائل الإعلام، أو وسائل الضجيج، كلّ ساعة، بعناوين برقيّة خاطفة. فالمعرض إذ يحمل اسم فلسطين، فإنّ فلسطين التي ستراها فيه لا تختلف عن صورتها التي تظهر فيها مع الحوادث والأخبار إلا أنها هنا تبدو وقد قبضت على الزمن لتشير إلى حياة باقية.
لا تقتصر زيارة المعرض على ساعات، هي وقت مشاهدة اللوحات والصور والوثائق، وإنّما يمكن أن تمدّها إلى أيّام وليال من شهور المعرض الذي افتتح في 31 مايو/أيار ويستمر حتى 19 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وذلك من خلال تتبع ندوات ثقافية وأدبية أقيمت بعضها لمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية إلى جانب عروض مسرحية وسينمائية وحفلات موسيقية.
يقدّم المعرض مشروعا لمتحف فني حديث بلا حدود بعنوان "سحاب" على افتراض أنّه سيُنقل يوما ما إلى فلسطين ويُجسَّد "بطريقة ملموسة على أرض غزّة المحرّرة"، ويهدف حسب القائمين على المعرض "إلى إخراج غزّة من العزلة من خلال المساحة الرقمية والواقع الافتراضيّ".
يقدّم المعرض مشروعا لمتحف فني حديث بلا حدود بعنوان "سحاب" على افتراض أنّه سيُنقل يوما ما إلى فلسطين ويجسَّد "بطريقة ملموسة على أرض غزّة المحرّرة"
تعود فكرة المتحف إلى عام 2021 من خلال مبادرة عدد من الفنانين، ثم بدأت خطوات التنفيذ مع "ورشة سحاب" الفنّية في غزّة التي أقامتها جماعة "حوافّ" التشكيلية بمشاركة أربعة عشر فنّانا أنجزوا لوحة بانورامية على هيئة سحابة.
في مشروع المتحف سنجد لوحات لبول غيراغوسيان وضياء العزاوي وأحمد نواش وهنري كويكو ولوحات أخرى من مختلف البلدان والقارات معظمها تشكّلت في فضاءات فلسطينية أو عنها. وهي تصوّر جوانب من حياة الفلسطينيين وجمالياتهم بفنّية عالية أدهشت معظم الزوّار المتحلّقين حولها.
إلى جانب هذه الأعمال والصور الفوتوغرافية التي يعود بعضها إلى أكثر من قرن وتصوّر تحوّلات المكان الفلسطيني في ظل الحروب والحصار والجدران العازلة، خُصّصت غرفة للقصيدة، لم يحضر فيها سوى محمود درويش بقصائده سواء تلك المحفورة من قبل الفنّانين رشيد قريشي وحسن مسعودي أو بصوته وهو يلقي في تسجيل تلفزيوني قصيدة "مديح الظلّ العالي".
عاشق فلسطين
وإذا كان من الصعب إحصاء كلّ الفعاليات المصاحبة للمعرض هنا، فإنّ من غير الممكن عدم التنويه بمحتويات حقائب جان جينيه في المعرض، هذا الكاتب الفرنسي الشهير الذي وقع في غرام فلسطين والفلسطينيين وكتب عنهما أهم المقالات التي أضاءت قضيتهما أمام العالم. فالمعرض احتوى على جناح منفرد عرض فيه محتوى حقيبتي سفر لجينيه كان قد سلّمهما لمحاميه رولان دوما قبيل وفاته في أبريل/نيسان 1984.
في الحقيبتين مخطوطات أولى ومراجعات وبطاقات بريدية وتذاكر سفر ورسائل وقصاصات شتى، كما سنجد إلى جانبهما مقالات جينيه في "مجلة الدراسات الفلسطينية" التي كانت تصدر باللغة الفرنسية، حيث يشير دليل المعرض إلى علاقة وطيدة جمعته مع الفلسطينية ليلى شهيد امتدّت من عام 1974 حتى وفاته. وبسب الصداقة الحميمة التي جمعتهما كانت زيارته معها لبيروت في 12 سبتمبر/أيلول 1982 قبل دخول القوّات الإسرائيلية إلى المدينة بيومين. فشهدا مجزرة صبرا وشاتيلا من 16 إلى 18 سبتمبر/أيلول ضد المدنيين اللاجئين من الفلسطينيين. ليكتب نصّه "أربع ساعات في شاتيلا" المنشور في "مجلّة الدراسات الفلسطينية" في يناير/كانون الثاني 1983.
وحوى المعرض نصّا لجينيه نُشر في أغسطس/آب 1971 في مجلة Zoom الفوتوغرافية وهو عبارة عن تعليقات على صور لبرونو باربي التقطها لفلسطينيين أثناء وجوده وقتذاك في عمّان.
يبقى كتاب "أسير عاشق"، الذي ترجمه إلى العربية كاظم جهاد، بمثابة الخلاصة الأبهى لعلاقة هذا المتمرّد الفرنسي بفلسطين. فهذا القدّيس، بحسب وصف سارتر له، عايش الفلسطينيين في أكثر مراحلهم تحوّلا فذهب إليهم في الأردن ولبنان وسوريا والمغرب العربي وعاش معهم في الخيم حيث أطلقوا عليه اسما حركيا هو "الملازم علي".
جينيه في هذا الكتاب يُعمل مشرطه الجريء ليقلّب جوانب جراح القضية الفلسطينية، وكعادته يوجّه النقد اللاذع إلى كلّ اتجاه، حيث يظهر الخونة مكشوفين بلغاتهم البلاغية وسهراتهم، وأولئك الذي يعتبرون أنفسهم ممثلين للشعب، إلى جانب تجارب المقاومة من دروس الأشبال العسكرية إلى تعاليم حرب العصابات ونظافة الفدائيين "فإذا كنتَ ذاهبا إلى الموت، فينبغي ألاّ تصل إلا بعد تطهّرٍ وجليٍ دقيقين". وهو يتنقل بين أساليب سردية عدة تتراوح بين الذكريات واليوميات والقصص مع وصف للأمكنة ونقل تفاصيل الأحداث والحوارات مستذكرا تجربته، أيضا، مع الفهود السود.
لعلّنا نجد في "أسير عاشق" انعكاسا متمرّدا لكلّ ما رآه جينيه، فقد قال إنّه حين يتطلّع إلى الثورة الفلسطينية من علوّ يرى "أنّها أبدا لم تكن رغبة باستعادة أراض شبيهة بحقول ضائعة وحدائق للخضر أو بساتين بلا أسيجة، بل حركة كبرى لتمرّد واحتجاج مساحيّ" لا حدّ له.
من هنا لم يقدر جينيه "على تفسير ما يقيم في أصل المقاومة" لكنّه لاحظ "أنّ مئات السنوات لا تكفي لسحق شعبٍ سحقا كاملا".
عروض وكتاب
إلى ذلك، احتوى المعرض نحو أربعمئة قطعة فنية، اعتبرها صاحب المبادرة الياس صنبر سفير فلسطين الأسبق لدى اليونسكو بمثابة مجموعة المتحف الوطني الفلسطيني المستقبلي للفن الحديث والمعاصر.
افتتح المعرض بحفلة موسيقية للأخوين جبران وهناك حفلة للفنّان فرج سليمان إضافة إلى تجارب موسيقية حديثة تحاكي فنّ الراب.
يبقى كتاب "أسير عاشق" الخلاصة الأبهى لعلاقة هذا المتمرّد الفرنسي بفلسطين. فهذا القدّيس، حسب وصف سارتر له، عايش الفلسطينيين في أكثر مراحلهم تحوّلا فذهب إليهم في الأردن ولبنان وسوريا والمغرب العربي
وعرض مسرح المعهد مسرحية "برلمان النساء" للإغريقي أريستوفان ولكن بمعالجة فلسطينية نوقش فيها بعض الأوضاع الاجتماعية في فلسطين. وعرضت بعض الأفلام الروائية والتسجيلية. وتزامنا مع ذكرى النكبة سيعرض فيلم "فرحة" من تأليف وإخراج دارين ج. سلام بعدما أجّل الأسبوع قبل الماضي. يحكي الفيلم قصّة فتاة فلسطينية اسمها فرح تطمح إلى الخروج من قريتها إلى المدينة لمواصلة تعليمها في المدرسة أسوة بالأولاد في وقت يشهد فيه سكّان القرية التهجير القسري من قبل المحتلّين بتواطؤ محلّي. وكان مسؤولون اسرائيليون قد اعترضوا على بثّ الفيلم في منصّة "نتفليكس" إلاّ أن المنصّة لم تستجب اعتراضهم.
وقد صاحب المعرض صدور كتاب حمل عنوان المعرض نفسه "ما تقدّمه فلسطين إلى العالم" ضمن سلسلة "عرابوراما" التي تصدر عن معهد العالم العربي في باريس بالاشتراك مع دار نشر "سوي" Seuil الفرنسية، فيه مقالات ودراسات فكرية وأدبية واجتماعية وقصائد وصور ولوحات لعدد من الكتّاب والباحثين والفنّانين العرب والأوروبيين. والكتاب كما يقول إلياس صنبر يسعى "لفهم تعقيدات العالم العربي وروحه الإبداعية، إلى تحديد معنى فلسطين: شعبها، حدودها، تاريخها، واقعها وحقيقتها بمنأى عن منظور الصراع".
كما أن المعارض "تهدف إلى تحويل حيوية وإبداع مجتمع تحت نير الاحتلال إلى آثار ملموسة، وفهم مغزى التمسّك بالحياة في هذا الزمن المعلّق والمتواصل". والهدف "ليس (توثيق) واقع الوجود الفلسطيني، بل التمعّن في الكيفية التي استطاع من خلالها الفنّانون التشكيليون الفلسطينيون والعرب تجاوزه وبالتالي مواجهة التساؤلات التي قد تعترض أي فنّان خلال استغراقه في العملية الابداعية".
من جانبه قال جاك لانغ رئيس معهد العالم العربي في باريس وهو يقدّم كتاب المعرض إنّ "فلسطين مساهمة بالفعل في تقديم الإنسانية بمواهبها وطاقاتها الإيجابية وأحلامها"، ورأى في المقدّمة المشتركة مع هوغ جالون رئيس دار "سوي" أن "فلسطين موجودة لها تاريخها وحكايتها، الممتدّة لآلاف السنين، استطاعت خلالها مقاومة كلّ أشكال العدوان والهيمنة الأيديولوجية ومحاولات التزوير. لها شعبها وشتاتها، لها شعور خالص بالانتماء وتجربة عيش مشترك. لقد أنجبت العديد من المفكّرين والفنّانين الذين يسردون تاريخها وحكايتها كما يواصلون استكشافها. ولفرادة هذه الحكاية وهذا التاريخ تحظى فلسطين بالاهتمام والإعجاب والتقدير في جميع أنحاء العالم. إنّها رمز وإلهام فكري وثقافي وفني وإنساني في الآن ذاته".