تشنّ إسرائيل، بالتوازي مع حملتها العسكرية على غزة، حربا أخرى لا تقلّ عنفا وراديكالية في نزوعها إلى تحقيق محو تام لكل المحمول الثقافي الفلسطيني. يكفي أن يكون النتاج فلسطيني المنشأ والهوى والمصدر حتى يصبح جريمة تضع صاحبها في مرمى استهداف يتدرّج من القمع والتنكيل والإذلال والترهيب إلى الاغتيال، ففي مشهد يعكس هذا النزوع الإسرائيلي تجاه معالم الثقافة الفلسطينية اعتقلت الشرطة الإسرائيلية المطربة الفلسطينية دلال أبو آمنة واغتالت الكاتب والمدوّن الشاب يوسف دواس في غارة على منزله في غزة.
فلسطين تغني
نشرت الطبيبة والمطربة الفلسطينية دلال أبو آمنة عبارة "لا غالب إلا الله" مرفقة بعلم فلسطين على حسابها على موقع "فيسبوك". كان ذلك سببا وجيها لاعتقالها من قبل الشرطة الإسرائيلية بصورة تعكس حالة الهستيريا الأمنية المهيمنة في هذه اللحظة والتي تجعل من كل يمكن أن يقوله المثقفون والمبدعون الفلسطينيون فعلا تحريضيا.
تنتسب العبارة التي نشرتها الفنانة الفلسطينية في عمقها إلى بنى إيمانية وروحية، ولكنها تتحول وفق التأويل الإسرائيلي إلى فعل إرهابي لا بد من قمعه ولجمه لأنه يعني أن المثقف الفلسطيني لم يسقط في الذهول والوجوم، وأنه لا يزال قادرا على النظر إلى المجزرة ورفضها ولو بصورة غير مباشرة. الهدف من القمع والإذلال تفجير ما ينطوي عليه من أمل ويقين بأن لحظة العنف الإسرائيلي زائلة وعاجزة عن نقل غلبتها العسكرية وسطوتها الأمنية إلى سرائر الفلسطينيين وقلوبهم وعقولهم.
حاولوا تجريدي من إنسانيتي، وإسكات صوتي وإذلالي بكل الطرق، شتموني وكبلّوا يديّ وساقيّ بالقيود، لكنهم بهذا جعلوني أكثر شموخًا وعزة.. سيبقى صوتي رسولاً للحب مدافعًا عن الحق في هذه الدنيا
دلال أبو آمنة
أطلق سراح دلال بعد قضائها يومين في السجن وفرضت عليها الإقامة الجبرية في المنزل الخاص بوالدتها في الناصرة إضافة إلى دفع كفالة مالية تبلغ 2500 شيكل ومنعها من كتابة أي تعليق يتعلق بالحرب لمدة 45 يوما.
تسرد أبو آمنة تلك التجربة قائلة:"حاولوا تجريدي من إنسانيتي، وإسكات صوتي وإذلالي بكل الطرق، شتموني وكبلّوا يديّ وساقيّ بالقيود، لكنهم بهذا جعلوني أكثر شموخًا وعزة.. سيبقى صوتي رسولاً للحب مدافعًا عن الحق في هذه الدنيا، شكرًا لكل من دعمني من كل أنحاء العالم، إن كان بكلمة أو بدعوة أو بموقف، ومحبتي وامتناني لعائلتي الحبيبة، لزوجي وأولادي وأمي وأخواتي وأصدقائي الذين تحملوا وعانوا الكثير من أجلي.. أحبكم جميعا في الله والحمد لله".
ونشرت الفنانة صورة تجمعها بأبنائها متبوعة بتعليق تؤكد فيه عقم محاولات القمع والترهيب "بعد قضاء ليلتين في السجن الانفرادي ظلمًا وبهتانا.. أنا حرّة.. حرّة كما كنت وحرّة كما سأبقى دوما وأبداً.. وجسدي الذي هَزُل بسبب إضرابي عن الطعام طيلة الثلاثة أيام أصبح الآن أقوى.. وإيماني بالله أعمق.. وقناعتي برسالتي وتكليفي زاد أضعافا".
تتجلّى خصوصية عمل هذه الفنانة الفلسطينية في ثلاثة خطوط أو عناوين عريضة. يتعلق الأول بالعمل على إحياء الموروث الغنائي الفلسطيني الشعبي في كل مناطق فلسطين عبر برنامج "مشوار ستي" التلفزيوني الذي يصوّر رحلة تتشارك فيها مع مجموعة من السيدات تهدف إلى الإضاءة على ما يكتنزه ذلك التراث من طاقات فرح وبهجة وأنماط علاقات وأدوات تعبير موسيقية وتأليفية ومنطق بناء خاص به، وإبراز كل تلك السمات في إطار تأكيد حيوية ثقافية متعدّدة ودينامية، تعيد وصل المكان الفلسطيني بأصوله وتاريخه وربطه بعنوان الهوية الفلسطينية الجامعة. جولات عديدة قامت بها آمنة ومجموعتها في العديد من البلدات الفلسطينية، وكانت الحصيلة مجموعة من الفيديوهات والمقاطع المصورة التي لاقت انتشارا واسعا في العالم العربي، وحولت دلال أبو آمنة إلى مؤثرة ثقافية فعالة يرتبط حضورها بانتشار التراث الغنائي الفلسطيني واستقباله كظاهرة ثقافية إنسانية.
العنوان الثاني يتعلّق بالغوص في تراث المنطقة باعتباره نسقا متشابكا ومتواصلا ويشكل دليلا على تقارب الأمزجة والأحوال، فقد اجتهدت أبو آمنة في تقديم التراث الشامي في موازاة التراث الفلسطيني بوصفهما كتلة ثقافية تنتمي إلى المنطقة وتعكس الارتباط بها والانتماء إليها، عبرعرض التراث الغنائي للمنطقة والذي تشارك في تكوينه مؤثرات معقدة ومتشابكة، ولكنها تخبر في نهاية المطاف قصة تنسف الروايات الإسرائيلية حول العلاقة بالمكان.
البعد الثالث يتعلق بالبعد العربي وتقديم عنوان الطرب بوصفه العام والمشترك والذي يشكل لناحية تلقيه نوعا من العنوان الثقافي الجامع. استعادت المطربة الفلسطينية غناء كلثوميا صعبا يعود إلى المرحلة الذهبية من صوت الست وقدمته باقتدار وبراعة. أطلقت بذلك نظام معان يدافع عن التمثل الثقافي للنتاج الطربي كمدخل لفتح السؤال الكبير حول المصائر المشتركة.
مع حربها المفتوحة على غزة، حاولت إسرائيل أن تفرض على المثقف صمتا قاتلا يعزله عن دوره ووظيفته. دلال أبو آمنة ترعب الإسرائيليين أكثر من الصواريخ والسلاح وذلك لأنه لا يمكن فصل شخصيتها وأنثويتها وثقافتها وغنائها عن خطاب الحداثة وقيم الليبرالية. إنها تمثل خلاصة تلك التمثلات في اطار فلسطيني يجعل من الاعتداء عليها اعتداء مباشرا على القيم التي تدّعي إسرائيل أنها تدافع عنها.
ينتمي الكلام والغناء في نهاية المطاف إلى العقلنة، لذا تمارس إسرائيلا تنكيلا مستقلا عنيفا يهدف إلى إغراق التعبير الفلسطيني في الهذيان واليأس والخرافة، وسلب الفلسطينيين القدرة على الفعل ومحاصرتهم في دائرة ردود الأفعال التي تنطلق من اليأس وتقع فيه
تدفع بصفاتها وشهاداتها ومشروعها وبكل ما يعلن عن انتسابها الى العالم الحديث والشراكة فيه في وجه الخطاب الإسرائيلي الإلغائي. من هنا نفهم درجة الشراسة المبالغ بها التي عوملت بها من قبل الشرطة الإسرائيلية والتي يمكن تأكيد أن الهدف منها كان نزع كل تلك الصفات عنها ومحو إنسانتيتها وإعادتها الى مكان بدائي يائس يعجز عن تكوين أي معنى، الا ما يفزره من غضب وحقد ورغبات في الانتقام.
ينتمي الكلام والغناء في نهاية المطاف إلى العقلنة، لذا تمارس إسرائيلا تنكيلا مستقلا عنيفا يهدف إلى إغراق التعبير الفلسطيني في الهذيان واليأس والخرافة، وسلب الفلسطينيين القدرة على الفعل ومحاصرتهم في دائرة ردود الأفعال التي تنطلق من اليأس وتقع فيه. لكنّ مشروع دلال أبو آمنة يتجاوز ردة الفعل والرغبة العارمة في الصراخ. إنه فعل واع يحارب المحو من ناحية ويفتح من ناحية أخرى حوارا مع العالم ويدعوه الى حماية نفسه وقيمه من آثار المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة، فدم الغزيين والفلسطينيين هو دم العالم وقيمه والذي في حال تركه يهدر فإن اللحظة التي تليه ستولّد عالما سيكون فيه كل شي مباحا.
الفلسطيني ليس رقما
قتل الكاتب والمدون الغزاوي يوسف دواس مع 27 من أفراد عائلته في غارة إسرائيلية. إطلالة على المعلومات الشحيحة المتوفرة عن سيرته تظهره ناشطا في مبادرة "نحن لسنا أرقاما" التي حرصت منذ إطلاقها في عام 2015 على تدوين يوميات الفلسطينيين ومحاولاتهم المستميتة للدفاع عن حضورهم الإنساني الطبيعي والعادي في مواجهة تراكم مشاريع محو متواصلة تسعى إلى تعليب وجودهم في صيغة الأرقام.
لا تحتمل الأرقام الوجوه والملامح، ولا تخترقها السير والحكايات، إنها نظام تجريد شامل لا يسقط عن الناس حقوقهم فحسب، بل تاريخهم أيضا، كأنهم لم يكونوا يوما.
كان دواس في مقالاته الأخيرة المكتوبة بالإنكليزية يحاول مخاطبة عالم سبق أن عانى ذلك الفزع الرهيب من اختصار الكائن البشري إلى رقم في لحظات الرعب الفاشي والنازي. عالم الغرب الحديث بما فيه من قيم العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان تبلور بعد هزيمة تلك المشاريع التي كان جوهرها قائما على صبّ الكائنات البشرية في قالب الأرقام.
ذلك العالم الذي تأسّس على تجاوز هذا الرعب يفترض أن يفهم معنى الإصرار الإسرائيلي على دفع الحياة الفلسطينية إلى الإقامة الجبرية في حالة الرقم. لكن الأمور لم تجر على هذا المنوال بل نمت صيغة إعادة تأويل تضع الإسرائيلي في وضعية الكائن الأعلى ولا تكتفي بوضع الفلسطيني في موقع الأدنى بل تتجاوز ذلك واضعة إياه في موقع يحوله إلى الكائن /الرقم بشكل نهائي.
في الموقع الذي اختاره دواس لنفسه تتحدّد الأمور بوصفها بنية أولية مبدئية وعمومية غير خاضعة للرأي والنقاش، من قبيل حق كل إنسان في أن يوجد وأن يكون وأن يمتلك معنى عمره.
في مقال حمل عنوان "من سيدفع ثمن العشرين عاما التي فقدناها"، منشور في 14 يناير/ كانون الثاني 2023، يعرض آثار الهجوم على غزة في العام 2022، واصفا خريطة المشاعر التي انتابته ووالده مع احتراق أرضهم بكل ما فيها من أشجار وتحولها إلى رماد:
"هجوم غزة الأخير نجح في تدمير جزء مهم من ماضينا. تاريخ عائلتنا. تراثنا. لكن من نحن دون ماض أو تاريخ؟ سألت نفسي.حاولت أن أطمئن والدي من خلال القول إن الأرض ستتعافى ونستطيع العمل بدعم الأمم المتحدة لإعادة زراعة الأشجار التي فقدناها.حتى لو ساعدنا شخص ما في إصلاح الضرر وزرع أشجار جديدة، من سيردّ لي تلك السنوات التي قضيتها في تربيتها ودعم نموها؟ ردّ عليّ بغضب. من سيدفع ثمن العشرين عاما التي فقدناها. ساد الصمت المحرج بيننا، وكلانا تأمل في الطبيعة الرمزية لخسارتنا".
حاولت أن أطمئن والدي من خلال القول إن الأرض ستتعافى ونستطيع العمل بدعم الأمم المتحدة لإعادة زراعة الأشجار التي فقدناها.حتى لو ساعدنا شخص ما في إصلاح الضرر وزرع أشجار جديدة، من سيردّ لي تلك السنوات التي قضيتها في تربيتها ودعم نموها؟
يوسف دواس
يناقش هذا المقطع شكل الخسارة ويحاول تحديد طبيعتها التي استقرّت التوصيفات العامة من كل الأطراف الداعمة والمعادية على اعتبارها مادية، أي صدى لرقم ما، وتاليا فإن التعويض عنها ومحو أثرها ممكن وبسيط. الوعي الذي يسوقه دواس يحارب من أجل تحديد آليات عادلة لقراءة الخسارة، لا تتحرّك ضمن دائرة التبخيس التي صممتها آليات محو إسرائيلية أقرّها الجميع من دون أي تمحيص.
ما يقوله هذا النص البسيط هو أن الخسارة مفتوحة، ولا يمكن تحديدها وهي تطاول الأعمار والمصائر والتواريخ، وتاليا فإنه من المستحيل التعويض عنها إلا بتحقيق العدالة، أما ذلك الركون الأعمى إلى عالم الرقم وتبنيه، فإن من شأنه أن يجعل الأرض مجرد تراب رخيص والأشجار مجرد حطب بائس، والأعمار والحيوات خارج كل الحسابات.
موقع "الوقائع الفلسطينية" الذي كان من كتابه نشر إثر اغتياله مقطع فيديو له يقول فيه "مرحبا أنا يوسف، وأنا حزين لأنني أتوق لزيارة مدننا الفلسطينية أكثر من تطلعي لزيارة باريس أو جزر المالديف". يختصر حزن يوسف الاستثناء الفلسطيني عموما والغزاوي خصوصا، فلو سألت أي شاب في العالم عن أمنيته لاستحال الحصول على مثل تلك الإجابة إلا في غزة التي كتب يوسف كيف تتفحم فيها الأعمار وتتشظى الحيوات، والتي يكتب أطفالها أسماءهم وتواريخ ميلادهم على أيديهم وأرجلهم في محاولة لكي لا يكون ما ينتظرونه من موت محوا تاما، وكي لا يكونوا أرقاما.