نهاية إسرائيل؟

نهاية إسرائيل؟

أعادت الحرب الإسرائيلية على غزة، الحديث مجددا عن نبوءة زوال مملكة إسرائيل، التي ذكرها التوراة، وطرحت النقاش حول الظروف الموضوعية والزمانية، التي تشكل حاضنة لنقل النبوءة من القول إلى الواقع؛ فهناك حدثان يشكلان في حال اجتماعهما، بداية النهاية، الأول: الصراعات الداخلية. والثاني: "لعنة الثمانين".

تقول الرواية التوراتية، إن الانهيارات التي شهدتها الممالك الإسرائيلية الغابرة، كانت أسبابها المباشرة داخلية، بين حكام إسرائيل أنفسهم، وليست نتيجة غزو خارجي، وتذكر أنه لم يعمر لإسرائيل في التاريخ إلا مملكة داود وسليمان، والمملكة الحشمونية، والمملكتان انهارتا في العقد الثامن.

وهو ما يُترجم اليوم، في الأزمة العقائدية بين رجال السياسة ورجال الدين، والانقسام السياسي الدائم والآخذ في التعمق بين أحزاب اليمين واليسار، والخلافات الحادة بين المتدين والعلماني، وبين اليهودي والصهيوني، وبين المتطرف والساعي إلى السلام. هذا كله يجتمع وإسرائيل في منتصف العقد الثامن من عمرها.

هناك لعنات أخرى، غير توراتية، تتربص بإسرائيل، لكونها كيانا عنصريا، يحمل بذور زواله بذاته، فلا شيء كالعنف يقضي على مرتكبه، لذلك، فإن ما يجري في غزة حاليا، هو أكبر اللعنات، التي ستصيب إسرائيل في وجودها.

أضف إليها الصراع الهوياتي الذي يعصف بمجتمعها، فيما عدا يهود الشرق ويهود الغرب، ويهود الشمال ويهود الجنوب، واليهودي الأبيض واليهودي الأسمر، حيث ينقسم اليهود إلى عدد من القبائل المتصارعة: قبيلة اليهود العلمانيين، قبيلة اليهود الأصوليين، قبيلة اليهود الصهاينة، قبيلة اليهود العرب، قبيلة اليهود المستوطنين، ويخرج من هذه القبائل، يهود آخرون يشكلون معا قبيلة مؤمنة بلغة التطرف والعنف، أو قبيلة معادية للصهيونية. هذا الصراع يؤثر سلبا على الأداء السياسي، وينتج حكومات متناحرة أو حكومات متطرفة، تعجل من تفكك الدولة وانهيارها.

هناك لعنات غير توراتية، تتربص بإسرائيل، لكونها كيانا عنصريا، يحمل بذور زواله بذاته، فلا شيء كالعنف يقضي على مرتكبه، لذلك، فإن ما يجري في غزة حاليا، هو أكبر اللعنات، التي ستصيب إسرائيل في وجودها

كان إيهود باراك، قد نبه إلى أن إسرائيل تتعرض لخطر وجودي، بسبب الانقسام الداخلي، محملا نتنياهو المسؤولية، مذكرا بأسباب اللعنة وظروفها. نتنياهو وقياداته ترعبهم النبوءة، وهذا الاندفاع غير المسبوق بالوحشية والوقاحة في ارتكاب المجازر، أساليب للتغطية على القلق الوجودي الذي تفرضه، علما أن الحرب على غزة أجلت حربا أهلية، كما أجلت سقوط نتنياهو، والحديث عن حرب طويلة ربما تجتاح المنطقة، محاولة لاجتياز العقد والعقدة معا، وتوحيد المجتمع، عادة ما توحد الحروب الخارجية المتفرقين، إذ يجتمعون للدفاع عن كيانهم بوجه الخطر الداهم، ويتجاوزون خلافاتهم أو يؤجلونها، ريثما يزول. 
بعيدا عن النبوءة، يمكننا أن نرسم خطا زمنيا انحداريا لتفكك إسرائيل، وانهيار مؤسساتها التدريجي، وانفراط عقدها الاجتماعي، بالتراكم الكمي والنوعي للأصوات اليهودية من خارج إسرائيل، التي تقف ضد قيام الدولة من الأساس، وتؤيد حق الفلسطينيين في استرجاع أرضهم، والتي عادت ونشطت مع حرب غزة، وشكلت رأيا عاما عالميا مهما وشهادة تفضح عنف إسرائيل وهمجيتها.

وبيهود الداخل خصوم نتنياهو سياسيا، الذين يحاربون الاستيطان ويهودية الدولة. وبحركة "ناتوري كارتا" ونضالها المستمر ضد الصهيونية. وبالصهاينة غير المستعدين للحرب، الذين هاجروا، بشرط حصولهم على الأمان، فلم يجدوه، وهم ينتهزون كل فرصة إعلامية ليعبروا عن سخطهم من دولتهم، ويتهمونها بالفشل في حمايتهم. وبمزدوجي الجنسية الذين يهربون إلى أوطانهم الأصلية عند سماع أول رصاصة. وبخصوم نتنياهو المتدينين، الذين يعتبرون تطرفه إحدى إشارات اقتراب تحقق النبوءة. بالأكلاف المادية والمعنوية التي ستُظهرها الحرب على غزة. 

قد تبدو إسرائيل متماسكة، في الشكل، فالشعور الأقلوي يغذي فكرة الاستبسال في الدفاع عن النفس، وهي تحاول منذ احتلت فلسطين، أن تبرهن بأن القوة هي التي تصنع التاريخ وتوجه مساره كيفما تشاء، لكن في المضمون، لم يجعلها القتل والتهجير والمجازر المهولة التي ارتكبتها في عام النكبة، ولا الاعتداءات على الدول العربية، ولا التطهير العرقي الذي ترتكبه اليوم في غزة وترتكبه كل يوم في فلسطين، لم يجعلها كل ذلك دولة آمنة لشعبها، ضامنة لبقائها، مطمئنة لاستمراريتها، وكلما تقدم بها الزمن، شعرت بقرب زوالها، أكثر مما يفعل أعداؤها. 
إنها دولة خارجة عن السياق الثقافي والحضاري للمنطقة، كيان هجين، جغرافيا محاطة بالجدران، كأنها تعيش داخل أكواريوم، معزولة، ليس لها جيران، مواطنوها محاطون برجال الأمن بلا أدنى شعور بالأمان.
ولأنها تغرق في محيط عربي، فهذه الأغلبية من حولها، تحبط إمكانية استمرارها، الامتداد الجغرافي البشري العربي، عامل ضغط وقوة كبيرة، بجانب الحق الفلسطيني وضدها.
في الداخل هي محاطة أيضا بالعرب، وهي تحاصر ومحاصرة في الوقت نفسه، بشعب تحرمه من حقوقه وتسلبه حريته وتسحق هويته وتخطف أبناءه وتقتله يوميا، وتتبع معه سلوكا غير عابئ بالقيم الإنسانية، من حصار غزة الطويل، إلى حركة الاستيطان النشطة، إلى فلتان عصابات المستوطنين في الضفة، إلى ما شهده حي الشيخ جراح، إلى تدنيس الأماكن المقدسة، هذا كله يؤجج الحقد ويخلق ردات فعل عنفية، تضعها هي أولا في دائرة التهديد الوجودي والزوال.

font change