"شرف" من الرواية إلى الفيلم والعنف الاجتماعي واحدhttps://www.majalla.com/node/302766/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D8%AD%D8%AF
قبل أيام قليلة من اندلاع حريق مديرية أمن الإسماعيلية، استقبل معهد غوته في القاهرة والإسكندرية جمهورا غفيرا لحضور العرض الأول في مصر لفيلم "شرف" المأخوذ عن رواية الكاتب صُنع الله إبراهيم، ومن إخراج سمير نصر. جاء العرض ضمن فعالية "أسبوع الأفلام"، التي يُطلقها المركز الثقافي الألماني بصورة دورية.
قد لا نتبين للوهلة الأولى، العلاقة بين الحدث المأساوي الذي خلّف ضحايا عديدين من قتلى ومُصابين، وبين الفيلم السينمائي الذي لم تُتح له فرصة من قبل للعرض في البلد. لكن مَنْ قرأ الرواية وتابع على الشاشة المشاهد المروعة، ربما يجد نفسه مأخوذا إلى استعادة عوالم "شرف"، لأنها بالضبط عوالم المسجونين والضباط في مديريات الأمن. وقد يختلط الواقع بالخيال، فنتصوّر حتى أن ذلك العالم الذي روى عنه شرف كشخصية أدبية هو الذي احترق، ولعلّه قضى بصورة مأساوية هو الآخر متفحما، ملتاعا على زملائه، هو الذي جاهد طويلا، ليبقى على قيد الحياة.
شرف إنسان عادي، بل عادي أكثر من اللازم، لا شيء يُميزه، منسحق تحت وطأة مسرح حياة اكتمل ديكوره قبل وصوله إليه. في لحظة مُعينة، يغلب هذا المسرح بشخوصه النافذة على شخصية شرف، فيُهمّش أكثر وأكثر، وآنذاك يصير، بلغة المسرح نفسه، مجرد كومبارس، واحدا من بين ملايين آخرين.
اختار سمير نصر، مخرج العمل، ومَنْ حلم أول مرّة بتحويل الكتاب إلى فيلم، نزع السياق الزمني والمكاني عن الرواية في فيلمه، ليُخرج الرواية من صورتها المحلية لتشمل العالم العربي
تُفتتح الرواية التي صدرت للمرة الأولى، عن دار الهلال، في مصر عام 1997 على هذا النحو: "من المؤكد أن الحذاء ليس هو المسئول عن المصير الذي آل إليه أشرف عبد العزيز سليمان (أو شرف كما ألفت الأم أن تنادي حبة عينها)، فقد كان مُبرمجا، بجيناته الداخلية لما وقع له من أحداث. ولا يُغيّر من الأمر قِصر الطريق الذي قاد من 'كوتشي' إلى 'جون'، ولا من الأخير إلى بؤر أخرى".
فشرف وفقا لرواية صُنع الله إبراهيم، مؤهّل للانقياد من البداية، إنه مُسيّر وليس مُخيرا، وفقا لتراتبية السلطة المُهيمنة، بدءا من الأب في البيت، وانتهاء بمأمور السجن مرورا بصغار المخبرين وعتاولة المجرمين. أما هويته البيولوجية فلن تنفعه كثيرا، لو أن شرف امرأة ارتكبت فعل القتل دفاعا عن شرفها، فلن تتغير القصة أيضا. شرف كشخصية روائية وإنسانية يتمرّد من دون أن يدري ولا أن يريد على صور الفحولة والذكورة المبالغ في وصفها في الكثير من أعمال الأدب المصري، لأن السلطة في نهاية المطاف – وفقا لرواية صُنع الله - هي الوحيدة التي تملك القدرة على الاعتداء وإثبات الفحولة، وهي تُنظّم العلاقة بين المُعتدي والمُعتدى عليه بما يخدم مصالحها. في هذه المنظومة، تتخذ الأغلبية الصامتة مواقعها الموصوفة لها سلفا، في صمت، وشرف مِن بينها.
إنه نموذج مثالي للمواطن ذكرا كان أم أنثى، في تمثيل متساو تام ونادر بين الجنسين، للفرد المُنتهَك. ولعلّ "شرف" كرواية هي أحد الأعمال الأدبية القليلة التي يُمكن للقراء أن يجدوا شيئا من أنفسهم فيها، بغض النظر عن جنسهم، على عكس الأغلبية العظمى من الروايات. من هُنا جرأة الرواية وقدرتها على الكشف، ومن هنا أيضا ألمعية طموح تحويلها إلى فيلم سينمائي.
اختار سمير نصر، مخرج العمل، ومَنْ حلم أول مرّة بتحويل الكتاب إلى فيلم، نزع السياق الزمني والمكاني عن الرواية في فيلمه، ليُخرج الرواية من صورتها المحلية لتشمل العالم العربي. وذلك يترجم في الفيلم بالاستعانة بمُمثلين من جنسيات عربية متعدّدة ليؤدّوا الشخصيات، وتحدثهم بألسنة عربية مُتباينة لا باللهجة المصرية فحسب (من فلسطيني إلى تونسي إلى لبناني إلى آخره)، مما جعل الفيلم في النهاية يصلح لكل زمان ومكان.
النصّ السينمائي
في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم، قال المخرج سمير نصر إنه رأى في الرواية التي تدور في السجن، أصدق تعبير عما يحدث خارج السجن، وهذا ما أسره فيها. كما لفت إلى الدور الحيوي الذي لعبه صُنع الله إبراهيم في كتابة السيناريو معه، وهو ما يجعلنا ننظر إلى "شرف" في النهاية (الفيلم والرواية)، باعتباره نصا مزدوجا يتحمّل رؤية الكاتب، لا كما يحدث في حالة الأعمال الأدبية الأخرى التي تظهر في السينما بمعزل عن الكاتب، وقد تفقد بشكل أو بآخر، جوهرها الأصلي.
تدبّ الروح في الكلمات والسطور، فتتحول إلى مشاهد حيَّة تعج بالأصوات وينبعث منها أنس ما، على الرغم من قتامة المشهد بصورة عامة. يتجاوز الفيلم البداية الساخرة للرواية، وكذلك الوصف التفصيلي للجريمة، ليضع شرف مُباشرة أمام جلاديه. المهم ليس ما جاء بشرف إلى السجن، فالسجن هنا يبدو عقوبة وجودية أكثر منه جنائية. نعلم، من أقواله في محضر التحقيقات، أنه وصل بسبب "دفاعه عن شرفه من الاعتداء"، وأن هذا الدفاع قد أدّى من دون قصد إلى مقتل الرجل الأجنبي الذي غرّر به. لكن لا أحد يُصدق هذا الدفاع، من الشرطة تحديدا. لا تبدو الحقيقة أمام ضباط الشرطة عصية على التصديق فحسب، بل أيضا عائقا أمام إغلاق التحقيق. تُنتزع الاعترافات العكسية تحت التعذيب، وعدا عن هذا المشهد، يكاد الفيلم يخلو من صور العنف الصريحة، التي تُسهب الرواية في وصفها، إذّ يكتفي بتمرير نوع من العنف الضمني والصامت.
في المقابل يزيد السيناريو من مساحة أدوار الإناث. يعطي الفيلم صوتا لهدى حبيبة شرف، تؤديها جالا هشام، قبل دخوله إلى السجن، وكانت في الرواية أقرب لحبيبة مُتخيّلة. كما تظهر أم الشاب شرف، وهي نفسها شابة كسيرة وعاجزة، تلعب دورها صالحة النصراوي، تُعطينا هيئتها الجسدية فكرة سريعة عن زواجها المبكر، وحملها لمسؤولية تنوء بها قبل الأوان، وبالأخص هنا عند سجن ابنها. وبفضل قابلية الفيلم للانطباق على كل زمان ومكان، فإن مشهد زيارتها لشرف، وكلامها معه من خلف الحواجز يُذكرنا مباشرة بلقاءات مُشابهة للفلسطينيين تحت إمرة الاحتلال الإسرائيلي عند الحواجز الأمنية. والأم تتحدث مثل شرف باللهجة الفلسطينية.
تعطي قصص الشرّ المجاني وحتى التافه، التي يتحدث عنها هؤلاء المساجين، صورة واسعة عن سريالية الحياة وظلمها خارج مجتمع السجن، كأنها غابة يدهس القوي فيها الضعيف، حتى لو كان فارق القوى بين الطرفين أصلا هزيل
وهذه الزيادة في مساحة السيناريو، لا تقابلها قوة، بل إن النساء مغلوبات على أمرهن مثلهن مثل الذكور. وفي العنف الضمني في الفيلم، ثمة الإذلال الذي يتوغل في كافة تفاصيل حياة شرف اليومية، بما فيها الأبسط وأساسية، كالطعام، والاستحمام، والتبوّل. جنبا إلى جنب الأعمال التي صار عليه أن يؤديها، من أجل مصلحة الجماعة، وهي أعمال لا يؤديها الرجال عادة، وتُحجز للنساء في الثقافة العربية، كالتنظيف والطبخ. حتى حين يُسأل شرف من بقية زملائه المساجين عن نوع الجريمة التي جاءت به إلى هنا ويُردّد مجدّدا: "كنت بدافع عن شرفي"، ستصير عبارته وكأنها دعوة لانتهاكه من مُعتدين آخرين.وحين يحاول أحد المساجين الاعتداء عليه، ويتصدّى له شرف، فإن ما يبقى في الذاكرة الجماعية للمساجين، هو طبيعة الاعتداء نفسه وليس نتيجته، وسيظلّ يُشار إلى شرف به.
تفاهة الشرّ
على الرغم من جدران السجن الكابية، والأجواء العامة الكئيبة داخل الزنازين، هناك جمالية ما في "شرف" سمير نصر. يعمل كل من التصوير السينمائي لداريا بيلتس، والديكور لخليل خوجة على تكريس السجن بوصفه مكانا فلسفيا، أو لا مكان، فهو مكان حُلمي أو بالأحرى كابوسي، أكثر منه سجنا حقيقيا. هناك الشموع التي نراها مُشتعلة والتي تحوّله أيضا إلى مكان يحتضن أحلام أولئك المواطنين السجناء وصلواتهم. في السياق نفسه، من الصعب ألا نفتن بأداء المُمثلين في "شرف"، بدءا من شرف نفسه الذي أداه الممثل الغزاوي، ولم يكن من قبل ممثلا محترفا، أحمد المنيراوي، بالقوة التعبيرية الهائلة لوجهه، وللطريقة التي يُجسد بها شرف، قد لا يكون متطابقا تماما مع بطل الرواية، لكنه يُحافظ على سماته الأهم، كرقته وبراءته النفسية، وكراهيته الغريزية للقمع، والأهم قدرته على الملاحظة التي تصنع كلا من النص الروائي والسينمائي.
نرى أيضا د. رمزي يعقوب الذي يلعب دوره الممثل اللبناني فادي أبي سمرة، ويتبدى شخصا متماسكا مثقفا، ينظر بعين طائر إلى ما يجري في السجن، وينوّع باستمرار بين طرق التمرد على النظام الذي يدينه، سواء في الداخل أو الخارج. مع رمزي يعقوب يتموضع "شرف" كفيلم سياسي، وفي حضوره فقط – إذ يلعب دور الوعي – قد تصبح الشخصيات مُخيرة وليست مسيرة كما تحسّ بقية الشخصيات ونحسّ معها داخل جدران السجن.
تمتد مذكرات رمزي يعقوب إلى ما يقرب المئة صفحة في الرواية، لكنها هنا بالتأكيد لا تحتل المساحة نفسها. عموما يبدو "شرف" الفيلم أقصر بكثير من "شرف" الرواية، لكنه أيضا مكثف أكثر. ينقسم الفيلم فصولا قصيرة، لكل فصل منها عنوان، معظم هذه العناوين يكتنفه طابع ساخر، كفصل "الراعي" الذي يعرض لعلاقة الضابط الفاسد بشرف، ومحاولة إفساده ليصير جاسوسا على جيرانه في السجن، أو فصل "مملكة الملكة سالي" الذي يُقدّم إحدى أكثر قصص الرواية عبثية، عن الشيخ المهدي نزيل السجن الذي تلاعب بمجتمع السجن من ضباط ونزلاء، وأوهمهم بقدراته في التسخير وقدرته على الإفلات من بين قضبان، والعبث هنا يكمن في أن هذا الدجال هو الوحيد الذي أصاب ممثلي السلطة بالذعر. وفي الفصل الأخير، يجيء العنوان "الاختيار"، لكننا نتساءل أي اختيار ذاك الذي كان أمام شرف؟
إلى ذلك، يظلّ شرف حلقة الوصل بين تلك الحياة البعيدة، وبين المُتفرجين، وهو يستمع إلى اعترافات زملائه المساجينبالجرائم في حديثهم معه، وكان صنع الله إبراهيم يعبر عن هذه الأحاديث في روايته باصطلاح يخصه "تبادلوا اللسانيات".
تعطي قصص الشرّ المجاني وحتى التافه، التي يتحدث عنها هؤلاء المساجين، صورة واسعة عن سريالية الحياة وظلمها خارج مجتمع السجن، كأنها غابة يدهس القوي فيها الضعيف، حتى لو كان فارق القوى بين الطرفين أصلا هزيل، كقصة "عم فوزي" ويلعب دوره توفيق البحري، الذي يتكلم عن حبه الشديد لحفيدته التي تحوّلت بين يوم وليلة إلى ضحيته. كذلك هناك "سالم" الذي منحه الممثل إبراهيم صلاح حضورا طاغيا، وهو صار بطريقة غير متوقعة قاتل متسلسل لكنه هنا في سجنه، لا يبحث سوى عن العاطفة والحميمية.
لعلّ "شرف" إلى جانب "ريش" - والاثنان من أعمال الإنتاج المشترك وتدور أحداثهما خارج حدود الزمان والمكان - من الأعمال القليلة التي سنتذكرها بعد حين، كأعمال مُقاومة ومُحرضة على التفكير والحلم.
عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان البحر الأحمر السينمائي العام الماضي، ولم يُعرض حتى الآن في دور العرض السينمائية المصرية.